موت بهذا الحجم.. يستحق كل هذا الحزن
كتب- أحمد الجار الله:
في موت بهذا الحجم, متسع المعنى وكثير المعاني لابد للعبارة أن تضيق, كما قال الفلاسفة من أصحاب الرؤية. فنحن هنا لا نفهم اختناقنا الا بالعودة لاتساع الموت, وعجزنا عن العبارة والتعبير, كون العواطف جامحة, والقلوب حزينة والعيون دامعة..
مصابنا في جابر الاحمد هو مصابنا في أنفسنا, فالرجل لم يكن بعيدا عنا في سدة الحكم, التي يغيب فيها كثيرون ويتيهون, وكان موجوداً في تفاصيل يومياتنا, وكان دائما هو المتماثل بين صورته وصورة الوطن, بحيث لم يعد من السهل تصور وطن بلا حضور جابر الاحمد. لكنه هو الذي سرعان ما يعيد عواطفنا الى التوازن, حين نعود معه الى ذاكرة الكلمات, فهو الذي قال »الكويت هي الوجود الثابت, أما نحن فنمثل الوجود العابر«. وفي الوجود العابر لا نلقى فقط العزاء بل نكتشف بؤرة الزمن الازلية حيث العبور في معانيها لا يساوي الا انتقالا من حال الى حال, من ليل الى نهار, من شتاء الى ربيع, لكن لا يتوقف شيء عن الدوران ويظل النهار والليل, والمواسم باقية في استطرادها, ويظل الرجال باقين في سمعتهم, في سيرتهم, الى ان تأتي القيامة فيجزى كل ذي عمل صالح عن عمله, ويلقى المسيئون العقاب.
من دون هذا التفسير لوجود جابر الأحمد لا نستطيع احتمال غياب هذا الوجود. فوجوده رأيناه يتجلى في الغياب عندما ضاعت الكويت في بطن الحوت الهمجي, لا أحد تخلى عنه, ولا أحد تخلى عن اسمه, ولا أحد ارتضى شرعية حاكمة للكويت إلا شرعيته.
وبهذا التجلي في الغياب تكمن صورة الحجم المتسع لجابر الأحمد, فترانا الان نقارن بين الغيبتين عن الكويت.
غيبة صغرى أيام الغزو الغاشم, وقد كانت اضطرارية, وغيبة كبرى هي التي تصفعنا الان بحقيقتها, وبأنها أجل الكتاب, واللوح المحفوظ, فلا تعود علينا المقارنة الا بقانون تحول الاشياء والذي بموجبه تحول حضور جابر الاحمد فينا الى معنى, يكتسب صفة الثبات التي هي للوطن, وما سواه كان العابر الذي لا راد لعبوره, ولحدوثه, كونه من إرادة الله, ومن آجاله المكتوبة.
برغم الحزن ترى العبارات في هذه اللحظة تأخذ سمة القوالب المنطقية حيث تقل العاطفة وترتفع جرعات الحساب والتقييم. والامر مع جابر الاحمد طبيعي, فهو لم يكن سفسطائيا من أهل الكلام, بل كان رجل عمل وإنجاز يترك أعماله وانجازاته تتحدث عنه, لكنه في نفس الوقت كان رجل حكمة, ورجل قيادة مقتدرة, وكان رباناً يحسن الابحار وسط العواصف والاعاصير.
في الحكمة فاننا نتمنى أن تورث في العاقبة, اذ نحب ان نرى الدنيا من بعد جابر الاحمد, وقد تكيفت على المقاسات التي وضعها بيديه, وحدد بها مشروعية الاحلام, ومشروعية الطموح, وجعل منها وسيلة ليتعرف بها اي واحد على نفسه, ويرى بواسطتها حجمه. ولذلك كانت حكمة جابر الاحمد مفضية دائما الى التسكين, بينما الآخرون, في هذه الضفة او تلك, يريد حسماً ويريد قطعا في الامر, وربما يريد استعجالاً بإحداث وقائع جديدة قد لا تكون الكويت جاهزة لاستقبالها, او لقبولها.
هذه المواقف تأتي من الحكمة, ومن معرفة جابر الاحمد بالرجال.. كان يعرفهم واحداً واحداً, ويعرف امكانياتهم ويعرف كل الدوافع التي تنفخ في طموحاتهم, إما في اتجاه التضخم, وإما في اتجاه التطرف.. وهذه المعرفة وحدها هي التي أبقت السفينة صامدة في وسط الاعاصير, والعواصف وأقنعت الآخرين بأن غرق السفينة- ان حصل لا سمح الله- فلن ينجو منه احد.
نحن اليوم وفي هذه الظروف الاستثنائية, أصبحنا مجبرين على التحول من زمن الى زمن, ولكل زمن دولة ورجال, لكن ما يطمئن أننا لا نعمل بلا مؤونة, وبلا إرث, فما تركه فينا جابر الأحمد يكفي للادخار, وللاقتداء, وللمبادرة. وأكبر ما تركه هو هذا التماهي بين الشخص والوطن, وأن العملية متاحة للجميع, كي يصبحوا رموزا لوطنهم , عبر كثرة العمل, وقلة الكلام, والتواضع ومعرفة النفس والذات. وهذه قضية سهلة لكل من أتى الله والوطن بقلب سليم, ولم تغلبه أهواء الدنيا, وتجعل الوطن في نظره فرصة عابرة, على عكس وجوده , ينهمك فيها المستعجلون, وقصيرو النظر, والعاجزون عن صياغة حياتهم مع الآخرين, والتحول بهم إلى مجتمع مشترك وحياة اجتماعية متفاعلة.
إرث جابر الأحمد, بهذه المعاني السالفة, هو إرث تعليمي وتأهيلي, يدفع بكل صاحب أمر أن يتحول إلى ثابت وطني من خلال العمل لأجل الوطن, ومن خلال تسخير السلطة لأجل هذا العمل, وعدم الاستمتاع بها, واللهو بامتيازاتها ومكتسباتها. الارث هنا يصبح ارثا ارشاديا, تعليميا, اقتدائيا, صعب عليه ان يكون عابرا, ويزول بزوال صاحبه.
لكن هناك من يقول بتغير الازمنة والدول والرجال, وهذا عادة هو كل ما هو عابر, وليس ثابتا كوجود الوطن .. وكل من يؤمنون بنهج التغير, مفرغا من المعاني, ومقتصرا على الوجود المادي, هم عادة كل الذين يطرأون بوجودهم على الدول لكنهم ابدا ما كانوا حكامها. فالحاكمية ليست لقبا, بل مؤهلا ينطلق من داخل الوجدان ليفعل وينتج في كل اتجاهات الوطن..
وربما سيكون من تحصيل الكلام لو تحدثنا عن الامير الراحل وقلنا أنه بنى الدولة العصرية, ومؤسساتها, وأنه صانع المعادلة في ضمان الكفاية عن طريق الادخار وتنمية المدخرات, او عن طريق الاستقطاع واستثماره لحساب اجيال الكويت الآتية. فالكلام في هذا الجانب لا يكون مفيدا الا اذا تم ربطه بالركائز النهضوية التي بنى عليها جابر الاحمد وتوسع في التشييد والعمران, والا اذا تم ربطها ايضا بركائز الاستقرار السياسي الذي نجح في صد العاديات عن البلد, وفي جعلها تتحمل أشقى الظروف المحلية والاقليمية والعربية والدولية. من دون ركائز الاستقرار هذه لما استطاع جابر الاحمد ان يعبر بسفينة الكويت اعصار الحرب العراقية الايرانية الذي دام ثماني سنوات, ونلنا من صواريخه الطائشة ومن ضغوطاته الخطيرة على الداخل الكويتي , الاشياء الكثيرة .. ولا ننسى انه في خلال هذه الظروف وقعت محاولة اغتيال جابر الاحمد سنة 1985 من قبل اطراف رأت ان فيه عدوا تجب محاربته, ورأت في ايران مرجعا تجب مناصرته. ثم جاءت عملية الغزو الصدامي للكويت, لتثبت, وفي قيادة جابر الاحمد, ان الدولة ممكن ان تكون نظاما وشرعية, فاذا ما نجا النظام نجت الدولة ونجت البلاد. وهذا ما حصل فعلا, اذ تجمعت لاجل تحرير الكويت أمم شتى, وقامت لها جحافل من الجيوش المتحالفة, قدر لها بعد حين ان تطرد الغزاة وتعيد الكويت لجابر الاحمد, وتعيد شعب الكويت الى ارضه. ولوحظ يومها ان عودة جابر الاحمد الى وطنه بعد التحرير كانت عودة عناق بعد غياب واحتضان بعد فرقة.. ولم يكن امامه يومها الا اديم ارض الكويت الذي انحنى وقبله, راسما بذلك معنى القول الذي تحدث به »الكويت هي الوجود الثابت« ومثبتا ان المحن حين تشتد تقدر عليها قوة الصبر والاحتمال, ويهزمها التوحد العاطفي بالارض الذي اباح الاستشهاد من اجلها والموت في سبيلها.
نحاول في جابر الاحمد لكننا لا نكمل الاحاطة, فالرجل كان في حياتنا معنى متسعا للوجود, وفيضا من مكارم الاخلاق, وروحا متجلية بالايمان بحب الله, فلتعذرنا نفسه الراجعة المطمئنة عن عباراتنا الضيقة فنحن هنا ندلي اليه بلوعة الفقد لا برغبة التأريخ, والتي ستجتاح الكثيرين من غيرنا فيما بعد, فيكتبون, ونكتب معهم, عن التفاصيل التأريخية لجابر الاحمد بكل الاستفاضة وإعطاء الحق والتثمين.
رحم الله جابر الاحمد, وليغفر الله له... لقد كان قائدا في أشد أزمنة الكويت صعوبة, وكان ربانا عنيدا اوصل السفينة الى بر الامان, وأسلمها لأهلها ومات.
إنا لله وإنا إليه راجعون.