أزمة القطاع المالي الأميركي تهدد بإغراق الاقتصاد العالمي بأكمله
السبت 27 ديسمبر 2008 - وكالات
يقف العالم مشدوها أمام ما يطلق عليه «الأزمة المالية» العالمية، فأكبر اقتصاد في العالم وهو الولايات المتحدة الأميركية مهدد بالانزلاق إلى هاوية الكساد والإفلاس، وممن؟ من كبرى المؤسسات المالية الدولية واعرقها في أميركا وأوروبا، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا هي «أزمة مالية» أكثر منها «أزمة اقتصادية»؟ فهي أزمة في القطاع المالي ولكنها تهدد بإغراق الاقتصاد بأكمله. فكيف ولماذا؟
هذا ما أوضحه تقرير صادر عن وحدة البحوث والتطوير وأمانة الهيئة ـ إدارة الرقابة الشرعية في «بيتك»، حيث أضاف أن البداية تتطلب أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه «الاقتصاد العيني أو الحقيقي» و«الاقتصاد المالي»، فأما الاقتصاد العيني «وهو ما يتعلق بالأصول العينية فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق غير مباشر (السلع الاستثمارية).
«فالأصول العينية» هي الأراضي والمصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء، وهي أيضا القوى البشرية.
وبعبارة أخرى هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات صحية ولكنها أيضا تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع الاستثمارية من مصانع وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. إلخ، وهكذا فالاقتصاد العيني، أو الأصول العينية، هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها.
وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل لابد أن يزود بأدوات مالية تسهل عمليات التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخرى.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى «أدوات» أو «وسائل» تسهل التعامل في الثروة العينية، لعل أولى صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة «الحقوق» على الثروة العينية، فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية، وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن وأحيانا الملبس، ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض على رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوما جديدا اسمه «حق الملكية» على هذه الأرض، فهذا «الحق القانوني» يعني أن يعترف الجميع بأنك المالك الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الأرض والتصرف فيها.
وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه «الأصول المالية»، باعتبارها حقا على الثروة العينية، وأصبح التعامل يتم على «الأصول المالية» باعتبارها ممثلا للأصول العينية.
فالبائع ينقل إلى المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية، وأصبح التعامل الذي يتم على هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كافيا لكي تنتقل ملكية الأصول العينية (الأرض) من مالك قديم إلى مالك جديد.
ولم يتوقف الأمر على ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن التبادل عن طريق «المقايضة» ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخرى أمر معقد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة «النقود» التي هي أصل مالي، بمعنى أنها بمثابة «حق» ليس على أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق على الاقتصاد العيني كله، فالذي يملك نقودا يستطيع أن يبادلها بأي سلعة معروضة في الاقتصاد.
أي أن «النقود» أصبحت أصلا ماليا يعطي صاحبه الحق في الحصول على ما يشاء من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد، والنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك.
ولكن النقود باعتبارها حقا على الاقتصاد العيني تسمح بإشباع الحاجات الحقيقية بمبادلتها بالأصول العينية (السلع)، أي أن «النقود» هي أصل مالي أو حق على الأصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن وجودها والتعامل بها يساعدان على سهولة التبادل والمعاملة في السلع العينية.
ولم يتوقف تطور «الأصول المالية» على ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية على موارد عينية محددة أو على الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت البشرية أيضا أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم يعد الأمر مقصورا على عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول ترفع القيمة الاقتصادية للموارد، ومن هنا ظهرت أهمية أن تكون هذه الأصول قابلة للتداول.
وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما ان تمثل حق الملكية على بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل مديونية على مدين معين (فرد أو شركة)، وقد تطورت أشكال الأصول المالية الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية والسندات.
وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات، مما زاد من حجم الأصول المالية المتداولة والتي تمثل الثروة العينية للاقتصاد، وساعد وجود هذه الأصول المالية المتنوعة على انتشار وتوسع الشركات وتداول ملكيتها وقدرتها على الاستدامة.
ولكن الأمر لم يقتصر على ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد على انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها، وحيث تتمتع بثقة الجمهور، مما أدى إلى زيادة تداول هذه الأسهم والسندات بين الجمهور.
فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الأصول المالية، مما أعطى المتعاملين درجة من «الثقة» في سلامة هذه الأصول المالية، ومن ناحية أخرى فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد فإنها تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور محل مديونية عملائها، فالعميل يتقدم للبنك للحصول على تسهيل أو قرض، ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلى ملاءة هذا العميل والثقة فيه، ولكن ما إن يحصل العميل على تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما لو كان نقودا، لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد، وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلى مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك.
وهكذا لعب القطاع المصرفي ـ والقطاع المالي بصفة عامة ـ دورا هائلا في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها، ومن هنا بدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية، وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني، فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني وأصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيدا عما يحدث في الاقتصاد العيني.