دكتور متقاعد
عضو نشط
- التسجيل
- 14 يناير 2007
- المشاركات
- 368
«ميلتون فريدمان» استرح بسلام
ديفيد باوز
توفي عن عمر يناهز الـ94 عاماً، ميلتون فريدمان، الذي يعتبر ربما أعظم علماء الاقتصاد في القرن العشرين. وعلى امتداد عمره الطويل كان له حظ رؤية العالم متجهاً نحو أفكاره.
وُلد فريدمان في نيويورك عام 1912، في نهاية فترة طويلة من السلام والرخاء. فقد شهد النصف الأول من حياته سلسلة من التراجعات الكارثية بالنسبة لتلك الأفكار: الحرب العالمية الأولى، الانقلاب البلشفي في روسيا، قيام الفاشية والاشتراكية الوطنية، اندلاع الحرب العالمية الثانية، والسيطرة الشيوعية على نصف العالم. ولكن لحسن الحظ كان والدا فريدمان قد هاجرا من أوروبا الشرقية، وبالتالي تجنبا الأحوال الكارثية التي حلت هناك.
بيد أن فريدمان ظل يواجه التحدي في وطنه الجديد أيضاً. فقد بدأ تطبيق ضريبة الدخل الفيدرالية في عام 1913. وقد أدخلت الحرب العالمية الأولى التخطيط الحكومي على نطاق لم يسبق له مثيل. ثم جاء منع المشروبات الروحية، و«الصفقة الجديدة»، واقتصاديات العالم كينز، والاعتقاد الذي أصبح سائداً بأن الحكومة الفيدرالية تستطيع حل أية مشكلة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع عقلية الحكومة الكبيرة سائدة بلا تحدٍ أو منازع في الولايات المتحدة، بدأ ميلتون فريدمان كتاباته. كتب أولاً حول القضايا الاقتصادية من النواحي التقنية، بحيث وضع الأسس لتحول لاحق في سياسة الولايات المتحدة النقدية. ومن ثم في عام 1962، وفي خضم الحماس لطرح جون إف. كينيدي حول «الحدود الجديدة»، نشر كتابه بعنوان «الرأسمالية والحرية»، والذي اقترح بموجبها إعطاء قسائم مدرسية من أجل جلب منافع المنافسة إلى التعليم، وفرض ضريبة محددة بحيث تصبح ضريبة الدخل أقل عبئاً، ثم تعويم نسب تبادل العملات من أجل تحسين الأوضاع المالية الدولية.
وعلى امتداد الـ40 سنة اللاحقة، بقي فريدمان أحد أهم دعاة الحرية الشخصية في أميركا. كان يكتب عموداً في مجلة النيوزويك، كما كان يلقي محاضرات في مختلف أنحاء العالم وكان يظهر على التلفاز، وبشكل دائم يدعو إلى مزايا السوق الحرة والمجتمعات الحرة. وقد تم ضمه كمستشار للرؤساء والمرشحين من الحزب الجمهوري، بيد أنه كان يرفض تلقيبه بـ «المحافظ» مصراً على أنه ليبرالي مثل ليبرالية توماس جيفرسون وجون ستيوارت ميل، أو ليبرتاري في التعبير المعاصر.
وقد كانت آراء ونصائح فريدمان تُطلب من مختلف أرجاء العالم. وأكثر تلك النصائح كان في عقد 1970 من القرن الماضي، عندما قدم نصيحته إلى حكومة تشيلي العسكرية (والتي لقي بالمقابل لها سنوات من الإدانة) وحكومة الصين الشيوعية (ولا يبدو أن أحداً قد اعترض على ذلك). ولحسن الحظ فإن الحكومتين أخذتا بنصائحه، وكلتاهما حققتا ما سمي بـ «المعجزة الاقتصادية». تشيلي الآن تتمتع بأنجح اقتصاد في أميركا اللاتينية، كما أن مسيرة الصين على الطريق الرأسمالية قد جعلها أكثر رخاءً مما كان يتخيله أي إنسان في عام 1976، وهي السنة التي توفي فيها ماوتسي دونغ، والسنة التي نال فيها فريدمان جائزة نوبل.
وفي عام 1980 وسّع فريدمان من جمهور مستمعيه بنشره لكتاب بعنوان «أنت حر الاختيار»، كما صاحب ذلك سلسلة من الحلقات التليفزيونية أُلقيت من تليفزيون الـ بي. بي. إس. ملايين الناس شاهدوا ذلك البرنامج وأصبحوا يتفهمون كيف يعمل نظام السوق. وقد قال أحد مشاهدي البرنامج وكان ممثلاً صغير السن أصبح فيما بعد حاكماً لولاية كاليفورنيا اسمه آرنولد شوارزنغر في عام 1994 «في النمسا لاحظت بأن الناس يقلقون هناك حول متى سوف يحصلون على تقاعدهم. في أميركا فإن الناس يقلقون إذا كانوا سوف يحققون قدراتهم. أما كتب فريدمان فقد أوضحت لي كيف أن نظاماً رأسمالياً ديناميكياً يتيح للناس تحقيق أحلامهم».
ظهر ذلك البرنامج بعد أن أصبحت مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، وقُبيل انتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة. تاتشر وريغان مثّلا ثورة كان ميلتون فريدمان قد ساعد في خلقها: وقد تجسدت في الابتعاد عن التخطيط المركزي ودولة الرفاه باتجاه تقدير متجدد للمبادرة والأسواق الحرة والحكومة المحدودة.
ليس فقط في انجلترا والولايات المتحدة، فقد أثر نجاح السوق الحر في تشيلي على بلدان أميركا اللاتينية الأخرى وحفزها على الابتعاد عن تقاليدها القديمة في التدخل في الشؤون الاقتصادية. وبعد عقد من انتخاب ريغان انهارت الامبراطورية السوفياتية، وتبين أن العديد من قادة شرق وأواسط أوروبا الجدد كانوا من قرّاء ميلتون فريدمان!
لقد أصبحت إستونيا بسرعة قصة نجاح في عهد ما بعد الاتحاد السوفياتي. وعندما زار رئيس وزرائها الشاب مارت لار واشنطن، سُئل من أين جاءت له فكرة الإصلاحات المبنية على نظام السوق، فكان جوابه «لقد قرأنا ميلتون فريدمان وإف. إيه. هايك». وقد وصف مُصلِح اقتصادي ناجح آخر هو فاسلاف كلاوس، رئيس وزراء التشيك، بأنه «فريدماني مع مستشارين من أتباع هايك».
لقد كافح فريدمان ضد الإكراه في جميع أشكاله. وقد كان الأب الفكري لإنشاء جيش جميعه من المتطوعين، حين أقنع عضو كونغرس صغير السن آنذاك، دونالد رامسفيلد، بأن يصبح قائداً في الجهود الرامية إلى إنهاء التجنيد الإجباري. وقد كان خصماً عنيداً وصريحاً في الحرب ضد المخدرات والتي قال إنها اعتداء على حقوق الفرد كما أنها تساعد على ارتكاب الجرائم والفساد.
وقد أعلن فريدمان في إحدى المناسبات قائلاً «إن العنصر الجوهري في دعوتي العامة كانت تنمية الحرية الإنسانية».
اليوم لن نعود نستمع إلى صوته. ولكن في خضم برامج الخيارات المدرسية المتنامية في أوهايو وأريزونا وما بعدهما، وانتشار الليبرالية الاقتصادية على امتداد العالم، فإن من الصعب ألا تُرى أعماله.
ديفيد باوز: نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كيتو بواشنطن العاصمة، ومؤلف كتاب «الليبرتارية: تمهيد». هذا المقال برعاية مصباح الحرية
ديفيد باوز
توفي عن عمر يناهز الـ94 عاماً، ميلتون فريدمان، الذي يعتبر ربما أعظم علماء الاقتصاد في القرن العشرين. وعلى امتداد عمره الطويل كان له حظ رؤية العالم متجهاً نحو أفكاره.
وُلد فريدمان في نيويورك عام 1912، في نهاية فترة طويلة من السلام والرخاء. فقد شهد النصف الأول من حياته سلسلة من التراجعات الكارثية بالنسبة لتلك الأفكار: الحرب العالمية الأولى، الانقلاب البلشفي في روسيا، قيام الفاشية والاشتراكية الوطنية، اندلاع الحرب العالمية الثانية، والسيطرة الشيوعية على نصف العالم. ولكن لحسن الحظ كان والدا فريدمان قد هاجرا من أوروبا الشرقية، وبالتالي تجنبا الأحوال الكارثية التي حلت هناك.
بيد أن فريدمان ظل يواجه التحدي في وطنه الجديد أيضاً. فقد بدأ تطبيق ضريبة الدخل الفيدرالية في عام 1913. وقد أدخلت الحرب العالمية الأولى التخطيط الحكومي على نطاق لم يسبق له مثيل. ثم جاء منع المشروبات الروحية، و«الصفقة الجديدة»، واقتصاديات العالم كينز، والاعتقاد الذي أصبح سائداً بأن الحكومة الفيدرالية تستطيع حل أية مشكلة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع عقلية الحكومة الكبيرة سائدة بلا تحدٍ أو منازع في الولايات المتحدة، بدأ ميلتون فريدمان كتاباته. كتب أولاً حول القضايا الاقتصادية من النواحي التقنية، بحيث وضع الأسس لتحول لاحق في سياسة الولايات المتحدة النقدية. ومن ثم في عام 1962، وفي خضم الحماس لطرح جون إف. كينيدي حول «الحدود الجديدة»، نشر كتابه بعنوان «الرأسمالية والحرية»، والذي اقترح بموجبها إعطاء قسائم مدرسية من أجل جلب منافع المنافسة إلى التعليم، وفرض ضريبة محددة بحيث تصبح ضريبة الدخل أقل عبئاً، ثم تعويم نسب تبادل العملات من أجل تحسين الأوضاع المالية الدولية.
وعلى امتداد الـ40 سنة اللاحقة، بقي فريدمان أحد أهم دعاة الحرية الشخصية في أميركا. كان يكتب عموداً في مجلة النيوزويك، كما كان يلقي محاضرات في مختلف أنحاء العالم وكان يظهر على التلفاز، وبشكل دائم يدعو إلى مزايا السوق الحرة والمجتمعات الحرة. وقد تم ضمه كمستشار للرؤساء والمرشحين من الحزب الجمهوري، بيد أنه كان يرفض تلقيبه بـ «المحافظ» مصراً على أنه ليبرالي مثل ليبرالية توماس جيفرسون وجون ستيوارت ميل، أو ليبرتاري في التعبير المعاصر.
وقد كانت آراء ونصائح فريدمان تُطلب من مختلف أرجاء العالم. وأكثر تلك النصائح كان في عقد 1970 من القرن الماضي، عندما قدم نصيحته إلى حكومة تشيلي العسكرية (والتي لقي بالمقابل لها سنوات من الإدانة) وحكومة الصين الشيوعية (ولا يبدو أن أحداً قد اعترض على ذلك). ولحسن الحظ فإن الحكومتين أخذتا بنصائحه، وكلتاهما حققتا ما سمي بـ «المعجزة الاقتصادية». تشيلي الآن تتمتع بأنجح اقتصاد في أميركا اللاتينية، كما أن مسيرة الصين على الطريق الرأسمالية قد جعلها أكثر رخاءً مما كان يتخيله أي إنسان في عام 1976، وهي السنة التي توفي فيها ماوتسي دونغ، والسنة التي نال فيها فريدمان جائزة نوبل.
وفي عام 1980 وسّع فريدمان من جمهور مستمعيه بنشره لكتاب بعنوان «أنت حر الاختيار»، كما صاحب ذلك سلسلة من الحلقات التليفزيونية أُلقيت من تليفزيون الـ بي. بي. إس. ملايين الناس شاهدوا ذلك البرنامج وأصبحوا يتفهمون كيف يعمل نظام السوق. وقد قال أحد مشاهدي البرنامج وكان ممثلاً صغير السن أصبح فيما بعد حاكماً لولاية كاليفورنيا اسمه آرنولد شوارزنغر في عام 1994 «في النمسا لاحظت بأن الناس يقلقون هناك حول متى سوف يحصلون على تقاعدهم. في أميركا فإن الناس يقلقون إذا كانوا سوف يحققون قدراتهم. أما كتب فريدمان فقد أوضحت لي كيف أن نظاماً رأسمالياً ديناميكياً يتيح للناس تحقيق أحلامهم».
ظهر ذلك البرنامج بعد أن أصبحت مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، وقُبيل انتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة. تاتشر وريغان مثّلا ثورة كان ميلتون فريدمان قد ساعد في خلقها: وقد تجسدت في الابتعاد عن التخطيط المركزي ودولة الرفاه باتجاه تقدير متجدد للمبادرة والأسواق الحرة والحكومة المحدودة.
ليس فقط في انجلترا والولايات المتحدة، فقد أثر نجاح السوق الحر في تشيلي على بلدان أميركا اللاتينية الأخرى وحفزها على الابتعاد عن تقاليدها القديمة في التدخل في الشؤون الاقتصادية. وبعد عقد من انتخاب ريغان انهارت الامبراطورية السوفياتية، وتبين أن العديد من قادة شرق وأواسط أوروبا الجدد كانوا من قرّاء ميلتون فريدمان!
لقد أصبحت إستونيا بسرعة قصة نجاح في عهد ما بعد الاتحاد السوفياتي. وعندما زار رئيس وزرائها الشاب مارت لار واشنطن، سُئل من أين جاءت له فكرة الإصلاحات المبنية على نظام السوق، فكان جوابه «لقد قرأنا ميلتون فريدمان وإف. إيه. هايك». وقد وصف مُصلِح اقتصادي ناجح آخر هو فاسلاف كلاوس، رئيس وزراء التشيك، بأنه «فريدماني مع مستشارين من أتباع هايك».
لقد كافح فريدمان ضد الإكراه في جميع أشكاله. وقد كان الأب الفكري لإنشاء جيش جميعه من المتطوعين، حين أقنع عضو كونغرس صغير السن آنذاك، دونالد رامسفيلد، بأن يصبح قائداً في الجهود الرامية إلى إنهاء التجنيد الإجباري. وقد كان خصماً عنيداً وصريحاً في الحرب ضد المخدرات والتي قال إنها اعتداء على حقوق الفرد كما أنها تساعد على ارتكاب الجرائم والفساد.
وقد أعلن فريدمان في إحدى المناسبات قائلاً «إن العنصر الجوهري في دعوتي العامة كانت تنمية الحرية الإنسانية».
اليوم لن نعود نستمع إلى صوته. ولكن في خضم برامج الخيارات المدرسية المتنامية في أوهايو وأريزونا وما بعدهما، وانتشار الليبرالية الاقتصادية على امتداد العالم، فإن من الصعب ألا تُرى أعماله.
ديفيد باوز: نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كيتو بواشنطن العاصمة، ومؤلف كتاب «الليبرتارية: تمهيد». هذا المقال برعاية مصباح الحرية