http://www.alwaqt.com/art.php?aid=151454
إذا استمرت «الأزمة» ستتحول مدننا إلى مدن أشباح.. النعيم:مدن الخليج منقطعة من جذورها الثقافية وساحة مغامرات ومشروعات تجارية
اعتبر الباحث الخليجي مشاري بن عبدالله النعيم أن ''ما تعيشه مدينة دبي بعد الأزمة المالية وتراجع أسعار النفط يدل بشكل قاطع على أن ما حدث في دبي كان نموا ''هشا'' وأن المدن المنتجة فقط هي التي تستطيع مقاومة الأزمات (...) يجب أن نتعلم من هذا الدرس ونحاول أن نعيد تقييم مدننا حتى لا تكون مصدر إنفاق يعطل مناحي التنمية''، وأشار إلى أن بعض الدراسات تتنبأ بشأن ''مدن دبي، الدوحة والمنامة التي بدأت فعلا تنفيذ مشروعاتها العمرانية العملاقة دون مسوغ اجتماعي واقتصادي واضح مما يجعلها عرضة للتحوّل إلى مدن أشباح العام 2015 عندما تتناقص فرص العمل ويغادر السكان المستوردون''، داعياً إلى ''جعل المدن الخليجية ديمقراطية وأن تكون مدن جميع من يسكنها لا من يحكمها وحسب''.
ورأى النعيم أن ''عوامل عدة أدت إلى تحول مدن الخليج إلى حالة التفكك والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها في الوقت الحالي، أول تلك العوامل هي غياب المشاركة الاجتماعية في القرارات العمرانية وتفرد السلطة بشكل كامل ببناء المدينة، الأمر الذي أدى إلى تفلت المدينة خارج حدودها الاجتماعية والسكانية التي يفترض أن تظل داخلها، وثاني تلك العوامل هو ظهور مجموعات ضغط قريبة من السلطة، دفعت بالنمو العمراني نحو مصالحها الخاصة في ظل غياب المراقبة المجتمعية وتفرد السلطة بالقرار، أما ثالث تلك العوامل فهو الوفرة المالية التي شجعت السلطة ومجموعات الضغط على تحويل المدينة إلى مشروع استثماري''، كما أشار النعيم إلى ''غياب الخبرات المحلية المعمارية والتخطيطية في مدن المنطقة واعتمادها على الخبرات الأجنبية التي يهمها أن تحقق أحلامها المعمارية من دون الالتفات لتأثير هذه المشروعات على من يسكن المدينة''.
واستعرض النعيم ''تجربة النمو العمراني في مدن الخليج العربي وخصوصا مدينة دبي في الألفية الثالثة وتأثيرات الأزمة المالية الحالية على مستقبلها''.
بدايات تشكّل المدينة الخليجية
وفي سياق استعراضه لتجربة المدينة الإماراتية قال النعيم ''إن تدفق عوائد النفط كان أبرز نتائجه في قطاع البناء والتشييد الأكثر تجاوبا مع هذا التغير، وكما هو الحال في كل المدن الخليجية بدأت انعكاسات عوائد النفط تشكل المدينة الإماراتية وبدأ يظهر ما يسمى بالتحضر النفطي كنتيجة لهذا التأثير''، وأضاف بالقول ''الإشكالية التي نراها هنا هي أن المدينة الخليجية كانت في مرحلة إعادة إنتاج الهوية، وهي إشكالية مهمة ومؤثرة في مسيرة أي مجتمع. إذ لم تعد ''الهوية التقليدية'' مرضية ولم تعد قادرة على التعبير عن تطلعات الدولة الجديدة التي بدأت تتشكل على امتداد الخليج، وتابع بالقول ''في اعتقادنا أن ''الثروة الجديدة'' كانت تتطلب هوية جديدة أو هكذا رأى من كان يتحكم في مدن الخليج، وبالتالي كان البحث عن هذه الهوية فتح الباب واسعا أمام كل التجارب ''المفتوحة النهاية'' التي لا يعرف تأثرها على المدى البعيد وبالتالي بدأت مدن المنطقة تشهد حالة جديدة لم تكن تعرفها من قبل''.
اللافت للنظر أن تلك التجارب كانت ذات اتجاه واحد دفعت مدن الخليج إلى طريق مجهول بعيد جدا عن طريقها الذي سلكته في قرون عدة.
مدننا والثقافة «البترودولارية»
وأشار النعيم إلى أن نهاية فترة السبعينات شهدت ظهور مصطلح ''مدن ''البترودولار'' الذي يشير إلى التأثير السريع للوفر المالي الذي نتج عن الطفرة الأولى (...) التصور العام عن تلك الفترة كان يمثل حالة ''المدن السطحية'' ''المحدثة النعمة'' التي تفتقر للأسس الثقافية والاجتماعية التي عادة ما تعتمد عليها المدن الكبيرة في نموها وتطورها. لذلك فإن مصطلح مدن ''البترودولار'' ألتصق بمدن الخليج على وجه الخصوص كونها مدن نشأت فجأة وبسرعة نتيجة للطفرة البترولية وفي منطقة صحراوية خالية من أي موارد مهمة سوى النفط ومن دون وجود المقومات الاجتماعية والثقافية والسكانية التي تبرر هذا النمو والتمدد السريع لهذه المدن. وفي الحقيقة يمكن اعتبار أن الأساس الذي قامت عليه مدينة مثل دبي كان هو ثقافة ''البترودولار'' التي شجعت حكام المدينة لتبنى مشروع توسعة الميناء والخور وإعداد المدينة بشكل كامل لمرحلة ما بعد الطفرة النفطية الأولى''.
واعتبر النعيم أن ''الحداثة ''البترودولارية'' أحدثت خللاً في مدن الخليج وفي تركيبة سكانها وحتى في اقتصادياتها فبينما تبدو تلك المدن حديثة وترتفع فيها البنايات المتعددة الطوابق المكسية بالزجاج، كان السكان المحليون أنفسهم يعيشون داخل ثقافاتهم المحلية التي لم تنكسر بعد''.
مدن لحظوية وتجارية
واعتبر الباحث أن إحدى صفات المدن الخليجية والإماراتية أنها ''مدن اللحظة التي كانت تتشكل في سنتين هي عمر بناء المشروع تركت آثارا عميقة وغائرة في المجتمع الإماراتي فمنذ تلك اللحظة بدأت حالة الانفلات وتحولت المدينة إلى ما يشبه المشروع التجاري وأصبح لكل قطعة أرض قيمة، الأمر الذي أدى إلى تدخل جماعات النفوذ لخلق أراض جديدة تدر عليهم مكاسب كبيرة من دون أي جهد''.
واعتبر أن ''مدن النفط التي صارت تتشكل بسرعة فائقة لم تتح المجال لأي مراجعة، فقد بدأت مظاهر ''رسملة المدينة'' وتحولها إلى مشروع تجاري منذ تلك الفترة، ولكنها لم تأخذ ملامح واضحة. الفجوة كانت بين حجم المدينة الذي صار يزداد بسرعة هائلة وبين حجم السكان المحليين اتسعت إلى درجة أنه لم يعد هناك بد من الاستمرار في استيراد سكان لملء هذه المدن بالـ(وافدين). الهدف هنا كان التنمية، رغم أن منطق التنمية هنا لم يكن واقعيا؛ كون التنمية يجب أن تكون ضمن الحدود التي يحتاجها السكان أنفسهم. لقد تم اعتبار المدن الإماراتية كمناطق مفتوحة للهجرة وبدأ مسلسل التغيير في التركيبة السكنية يزداد ويتسع إلى أن وصل الوضع الذي أصبح فيه السكان المحليون أقلية داخل تلك المدن''.
بريق الألفية الثالثة
وبشأن مدينة دبي قال النعيم ''تصور نفسها أنها المدينة الاقتصادية الأولى في المنطقة ونقطة وصل بين الخليج والعالم (...) صاحب هذا الصورة تمدد عمراني محموم جعل من المدينة أكبر ورشة بناء في العالم''.
وأضاف ''لقد انتقد (مايك جانكس) وهو أستاذ في التنمية المستدامة في جامعة (أكسفورد بروكس) الإنجليزية، تصنيف دبي على أنها مدينة العالم، وقال إن المدن العالمية تقاس بمقدار إنتاجها الاقتصادي ولا يوجد في العالم العربي مدينة عالمية، لكن يمكن أن تكون هناك مدن بمواصفات عالمية من خلال نوعية الحياة التي تقدمها. يؤكد (جانكس) أنه لا توجد هناك مدينة مستدامة بشكل كامل، وأن على المدن العربية أن تتكامل لا أن تتنافس وألا تكرر نفسها''.
تقرير جون هارس
وأشار النعيم إلى التقرير الذي اعتمدت عليه الإمارات في تطوير دبي ''نجد أن مخطط التنمية التنظيمي لمدينة دبي المعد بواسطة الاستشاري (جون هارس) من أول الدراسات التخطيطية التي سلطت الضوء علي مسببات التحول في البيئة المبنية في مدينة دبي في نهاية الستينات (...) رغم إثارة تقرير هارس الكثير من التوصيات وخيارات التنمية إلا انه لم تتم ترجمة الكثير منها إلى أرض الواقع، فمثلا رغم اقتراح الحفاظ على المباني التقليدية في تقرير هارس في بداية السبعينات إلا أن أول مبادرة للحفاظ على المباني القديمة كانت 1981 بقرار ترميم بيت الشيخ سعيد (...) التوصية بالحفاظ علي البيئة العمرانية التقليدية كان من الصعب تبنيها في فترة الطفرة. ففي تلك الفترة كان الاتجاه قويا نحو الأخذ بفكرة حداثة المدينة''.
قلب المدينة التاريخية
وانتقد النعيم محاولات المدن الخليجية إلى ''التخلص من قلب المدينة التاريخي وكأنه تخلص من كل مظاهر الفقر الذي كان يعم المنطقة حتى إن مدينة الكويت كلها هدمت وتحولت إلى أرض فضاء لم يقم عليها أي مشروع حتى اليوم، وكأن الرسالة هي فقط أنه يجب محو تاريخ المدينة الخليجية وبأي طريقة كانت، الأمر الذي عمق مسألة ''قشرية'' المدينة وإضعاف جذورها الثقافية وجعلها تنفتح على معادلة رسملة المدينة''، وأضاف ''محو التاريخ سهل، من المغامرات الاستثمارية العقارية داخل مدن المنطقة وفتحها سكانيا حتى أنها تحولت إلى مدن ''مليونية'' غريبة عن المنطقة. لقد ساعدت الطفرة النفطية الأولى هذا التوجه السلبي نحو المدينة فقد كان الهدف هو صناعة مدن جديدة بالكامل مع قطع كل الارتباطات مع الجذور الثقافية والمحلية''. ورأى النعيم أن ''نواة المدينة في الخليج تعرضت لضغوط عمرانية وثقافية كبيرة في العقود الأخيرة حتى أنها تآكلت ولم يبق منها إلا القليل القريب من العدم، الأمر الذي سهل تحول هذه المدن بحسب الأهواء وحسب الظروف، وكثيرا حسب المطامع والمتنفذين في المدينة الذين تعاملوا معها على أنها مجرد شيء يباع ويشترى. لقد أصبحت مدنا ''متلونة'' يصعب تحديد ماهيتها وهويتها، كما أنها أثبتت أنها مدن قشرية وهشة لا تستطيع مقاومة الأزمات ولا تستطيع أن تقف في وجه التغيير الزائف''.
قوى السوق والمدن
واعتبر النعيم في ورقته أن ''قوى السوق ومنذ سنوات أصبحت توجه السوق أكثر مما يوجه من المخططات المعدة سلفاً، ما أدى إلى اتصاف النمو بعدم الشمولية (...)، في دبي مثلاً حدد المخطط قيودا لارتفاعات المباني التي حددت بتسعة طوابق، إلا انه مع بداية السبعينات كان من الصعب الالتزام باشتراطات المخطط حيث تجاوزت المباني الطوابق التسعة''، وتابع بالقول ''وينظر )ذفهم( إلى أن مخطط هارس قد اغفل نقاطا عدة عندما اقترح المخطط العمراني لدبي منها: أولا: فرض النظام الشبكي للطرق على المدينة القديمة مما ساعد علي زيادة المرور العابر للمنطقة التي كانت بيئتها العمرانية أصلا موجهه نحو المشاة، خصوصا مع زيادة المضاربات بالأراضي في المدينة القديمة، ثانيا: كما شجع المخطط استخدام الأراضي المستصلحة علي جانب الخور في تشيد مبان متعددة الأدوار مما عزل المنطقة القديمة عن الخور''.
تقليد دبي «الأعمى»
وانتقد النعيم محاولات بعض المدن الخليجية والعربية تقليد نموذج دبي ''هذا الالتفات المتأخر من قبل مدن المنطقة لتقليد نموذج دبي جرف المنطقة إلى نفق مظلم، خصوصا المدن القريبة من دبي مثل أبوظبي والشارقة وعجمان وحتى البعيدة مثل الدوحة والمنامة والكويت وبدرجات متفاوتة، رغم أن تجربة دبي نفسها لم تختبر بعد أمام الأزمات ولم يتم التعرف بعد على تأثيراتها الجانبية (...) والذي يظهر لنا هنا أن مدينة دبي كانت تبحث عن اختصار ''تجربة'' العالم كله في مدينة واحدة، لذلك لم يكن مستغربا أن تسمي نفسها بمدينة ''العالم'' على أن هذا الاختصار كان مخلا وغير منطقي وحول المدينة إلى مدينة ملاه كبيرة حيث يوجد كل شيء ولا يوجد شيء حقيقي وأصيل''.
وحول تداعيات الأزمة المالية على دبي قال النعيم ''من المتوقع مع الأزمة المالية الحالية أن تتراجع المدينة بشكل مخيف، حيث يوجد قروض وعجز مالي على حكومة دبي يقدر بـ 70 مليار دولار وهو رقم مرشح للصعود (...) أهم عنصر في المشكلة التي تعيشها دبي هو أنها اعتمدت بشكل كامل على غير سكانها في نموها العمراني. لقد تم اعتبار المدينة برمتها ''مشروعا تجاريا'' وتم تنفيذ المشروع في فترة لم تتجاوز السنوات الثماني(...) لقد اعتمدت السياسات التي اتبعتها حكومة دبي على فكرة ''الجديد المثير'' وعلى المنفعة القريبة المدى من دون التفكير في الضرر البعيد المدى الذي يحدثه النمو السريع غير المدروس.
وذكر النعيم أن ''الأزمة المالية الحالية أدت إلى توقف كثير من المشروعات العمرانية نتيجة لغياب التمويل اللازم، خصوصا تلك المشروعات المرتبطة بالقطاع الخاص، ولا شك في أن توقف هذه المشروعات يقلل من حيوية المدينة الاقتصادية التي كانت تعتمد على توافر فرص العمل وارتفاع الأجور كعوامل تجذب المؤهلين من الخارج إليها''، وتابع بالقول ''لقد تراجع معدل الأجور في القطاع الخاص20% على أقل تقدير منذ بداية الأزمة''.
حجم الخسائر «كارثي»
وذكر النعيم أن ''التراجع الذي سوف تحدثه الأزمة المالية في مدينة دبي سوف يتجاوز البيئة العمرانية إلى تراجع النمو السكاني (المفتعل) وبالتالي يمكن أن تتشكل سلسلة من التراجعات التي قد تؤدي إلى ركود اقتصادي وعمراني طويل (...) يمكن تصور حجم تأثير الأزمة المالية الحالية على مدن الخليج العربي لو أننا تصورنا أن القيمة العقارية للمشروعات العملاقة التي تم تنفيذها في هذه المدن انهارت (وهي مؤهلة لذلك فقد تراجعت قيمة العقارات في دبي منذ بداية الأزمة من 20-30%)، فإن حجم الخسائر الاقتصادية سوف يكون كارثيا، خصوصا أن مدينة دبي تقوم على قاعدة اقتصادية أساسها الاستثمار العقاري.
وأضاف بالقول ''أما الكارثة الأكبر فهي عندما يغادر السكان غير المواطنين هذه المدن، فعندها سوف تصبح خالية مقارنة بالتوسع العمراني الكبير الذي حدث فيها (وهذا أسوأ سيناريو يمكن أن تمر به مدن الخليج). سوف تتحول هذه المدن في هذه الحالة إلى مدن أشباح لأنه حتى السكان المحليون لن يستطيعوا العيش فيها.
نتائج النمو الهش
وأكد النعيم أن ''ما تعيشه دبي الآن بعد الأزمة المالية وتراجع أسعار النفط يدل بشكل قاطع على أن ما حدث في دبي كان نموا ''هشا'' وأن المدن المنتجة فقط هي التي تستطيع مقاومة الأزمات''.
وأضاف
''مدن الخليج العربي تحتاج أن تكون مدنا ديمقراطية، ويجب أن تكون مدن كل من يسكنها لا مدينة من يحكمها''.
تحتاج المدينة إلى أن تكون هم الجميع ونتيجة للتنمية التي يقوم بها الجميع لا حلما فرديا يشكلها كيفما يشاء''.