اخطبوط
عضو نشط
- التسجيل
- 22 سبتمبر 2004
- المشاركات
- 63
موقف السلف من التورق المنظم
د. سامي بن إبراهيم السويلم 3/11/1426
05/12/2005
منقول من الإسلام اليوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد انتشر التمويل من خلال التورق المنظم في السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة، واستفحلت بسببه مديونية الأفراد، وترافق ذلك مع تدهور توزيع الدخل وارتفاع تركيز الثروة بدرجة ملحوظة.
وقد نتج عن انتشار هذا التمويل لدى المصارف الإسلامية تساؤلات جوهرية حول حقيقة التمويل الإسلامي والرسالة التي وجدت المصارف الإسلامية أصلاً من أجلها. فبينما كان دعم التنمية والإسهام في النشاط الحقيقي للاقتصاد على رأس قائمة أهداف المصارف الإسلامية، من خلال المشاركة والاستصناع والإجارة ونحوها من المبادلات الحقيقية، تراجعت هذه الأهداف بعد بروز التورق المنظم، وحل محلها أهداف ”أكثر واقعية“، تقتصر على تحقيق الربح من خلال تقديم النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة، مع توسيط سلع لا أثر لها في النشاط الحقيقي أو في توليد قيمة مضافة للاقتصاد.
وهكذا صار التورق المنظم سبباً في التراجع عن أهم أهداف المصارف الإسلامية، وسبباً لتشكيك الكثيرين، من المسلمين وغير المسلمين، في جدوى التمويل الإسلامي أصلاً، وما إذا كانت هناك فروق فعلية بينه وبين التمويل الربوي.
ولذلك لم يكن غريباً وقوع النـزاع بين الفقهاء المعاصرين حول مشروعية هذا النمط من التمويل، وتتابع المناقشات والمداولات بشأنه عبر سلسلة من الندوات والمؤتمرات، كان خاتمتها اجتماع مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والذي صدر قراره في أواخر ١٤٢٤هـ بمنع التورق المنظم وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية.
وقد قدمت العديد من البحوث والدراسات حول الموضوع، بين مؤيد ومعارض. انصب معظمها حول الاستدلال بشتى أنواع الأدلة حول مدى مشروعية هذه الصيغة من عدمه. لكنها تكاد تتفق على أن هذه الصيغة تبدو مستحدثة وغير مطروقة في مصادر الفقه الإسلامي ومدوناته.
لكن تبين أن هذه الصيغة كانت معروفة منذ القرن الأول للهجرة، وأن فتاوى السلف بشأنها كانت صريحة وحاسمة في منعها. ونظراً لغياب هذه الحقيقة عن كثيرين، جاء هذا البحث ليسلط الضوء على هذا الجانب، وليسهم في بناء تصور أكثر موضوعية ومصداقية في هذه المسألة الخلافية.
ولتتضح الصورة للقارئ نمهد بتحديد المصطلحات محل البحث:
مفهوم التورق وأنواعه
التورق أو التورق الفردي: هو الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقداً لطرف آخر غير البائع.
التورق المنظم: هو أن يتولى البائع ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق.
التورق المصرفي: كثيراً ما يستخدم هذا المصطلح رديفاً للتورق المنظم. لكن يمكن التمييز بينهما بأن التورق المصرفي هو تورق منظم يسبقه مرابحة للآمر بالشراء، حيث الآمر بالشراء هو المتورق. والسبب أن المصارف في الغالب لا تملك سلعاً ابتداء، فإذا رغب العميل في الحصول على النقد من خلال التورق المنظم عبر المصرف، تطلب الأمر شراء المصرف السلعة لأمر المتورق، ثم بيعها عليه بأجل، ثم بيعها نقداً وتسليم النقد للعميل.
فتاوى السلف في التورق المنظم
1. الإمام سعيد بن المسيب (٩٤هـ)
وهو أعلم التابعين، وأفقه الناس في البيوع (1). كان يفتي والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئل عن شئ يشكل عليه يقول: (سلوا سعيد بن المسيب فإنه كان يجالس الصالحين)(2).
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت فإن عندي طعاماً، [قال:] فبعتُها طعاماً بذهب إلى أجل، واستَوفَتْه. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعتها لها. فوقع في نفسي من ذلك شئ. فسألتُ سعيدَ بن المسيب فقال: (انظر ألا تكون أنت صاحبه؟) قال: قلت فأنا صاحبه. قال: ”فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل“، هذا لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل، ثم أمَرَتْه أن يبيعه، فباعه. قال: فسألتُ سعيد بن المسيب فقال: (أبصر ألا يكون هو أنت؟) قلت: أنا هو. قال: (ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك) (3).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات المهمة:
1. إن هذه المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم، لأن داود هو الذي باع السلعة بأجل ثم تولى بيعها نقداً نيابة عن أخته لطرف ثالث. ويدل على أن البيع النقدي كان لطرف ثالث أمور:
• التصريح بأنها (أمَرَتْه أن يبيعه)، وهذا صريح أنه نائب عنها في البيع، لا أنه هو المشتري.
• قوله: (أنا أبيعه لكِ). وهذا معناه أنه يبيع نيابة عنها، لا أنه يشتري منها، وهذا معروف عند السلف، إذا قال: أبيعه لك، أي أبيعه لمصلحتك نيابة عنك (4). ولو كان هو المشتري لقال: أنا أبتاعه منك.
• قولها: (انظر لي من يبتاعه مني)، وهذا يدل على أنها طلبت البحث عن المشتري بعد شرائها من أخيها بأجل، ولو كان المقصود أن يشتريها هو نفسه لما كان هناك حاجة للبحث عن مشتر.
• أن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ذكرا هذا الأثر في باب آخر خلاف أبواب العينة الثنائية (5).
فهذه المعاملة من باب التورق المنظم وليست من العينة الثنائية التي ترجع فيها السلعة للبائع.
2. إن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة لأنها ربا، بل وصفها بأنها (الربا محضاً)، وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك.
3. إن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها قبل ذلك. وإذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله لقي جمعاً كبيراً من الصحابة، وكان صهر أبي هريرة رضي الله عنه، وكان مقيماً بالمدينة النبوية وفيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيَبعد والحال كذلك أن تكون هذه الفتوى، بهذا الجزم، محض اجتهاد منه رحمه الله، بل الأقرب أن له فيها سلفا يتصل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
4. أن أخت داود سمّت معاملتها عينة، لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: (أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة) (6). ففسر التورق بأنه عينة. وسيأتي إن شاء الله ما يؤكد ذلك عند الفقهاء.
2. الحسن بن يسار البصري (١١٠هـ)
من سادات التابعين علماً وعملاً، وفقيه البصرة ومفتيها. قال أبو قتادة: ما رأيت أحداً أشبه برأي عمر بن الخطاب منه. وقال قتادة: ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شئ كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (7).
روى عبد الرزاق عن أبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق. فقال الحسن: (لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق).
وروى أيضاً عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: (بع واتق الله). قال: يبيعه لنفسه؟ قال: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً، ولا تكون منه في شئ. ادفع إليه متاعه ودعه) (8).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات:
1. قوله: إني أبيع الحرير، كان الغالب آنذاك هو استعمال الحرير للحصول على النقد من خلال شرائه بأجل ثم بيعه نقداً، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في العينة: (دراهم بدراهم وبينهما حريرة.) وتسمى العينة أحياناً: (بيع الحريرة) (9)، وسيأتي ما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء. ويفهم أن أبا كعب ربما باع بأجل لمن يريدون العينة، ولهذا قال الحسن في الرواية الثانية: (بع واتق الله) أي لكثرة ما يلابس بيع الحرير من الوقوع في العينة بصورها المختلفة.
2. إن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: (لا تكون منه فيه شئ ادفع إليه متاعه ودعه.) وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقداً، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
3. وقول الحسن رحمه الله: (لا تبعه) أي لا تبع الحرير نيابة عمن اشتراه منك بأجل، وهذا منع للتورق المنظم. وقوله: (ولا تشتره) أي لا تشتره منه، وهذا منع للعينة الثنائية. وقوله: (ولا ترشده) أي لا تدله على من يشتريه منه نقداً. وقال في الرواية الأخرى: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً) يعني والله أعلم إذا بعت الحرير واشتراه منك المتورق فلا تدل عليه من يشتري منه بنقد. فمجموع الروايتين منعٌ للدلالة من الجهتين. وعلى كل تقدير فهو نهي عن التدخل في عملية التورق، ولهذا قال: (ادفع إليه متاعه ودعه).
4. إن هذا التدخل ممنوع وإن كان المشتري لا يحسن التعامل في السوق، لقوله: (فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق) ، ومع ذلك نهاه الحسن رحمه الله عن التدخل، لعلمه أن مراد هؤلاء النقد. ولو كان هذا المراد حلالاً طيباً لكانت الإعانة عليه مشروعة مطلوبة. فلما كانت الإعانة على تحصيل النقد بهذا الطريق ممنوعة، علم أن هذا الغرض محل شبهة على أقل تقدير.
3. الإمام مالك بن أنس (١7٩هـ)
إمام دار الهجرة، وعالم المدينة الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم، فلم يجد الناس أعلم منه، كما ورد في الحديث النبوي (10).
قال ابن القاسم: (سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه) (11).
ويلاحظ من هذا النص:
1. أن المعاملة التي سَأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم، لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقداً نيابة عنه لرجل آخر. فقوله: (فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد)، أي قال المشتري للبائع: بعها لي، أي بعها نيابة عني، كما سبق. وقوله: (من رجل) أي غير البائع نفسه كما هو ظاهر.
2. إن الإمام مالكا منع هذا التعامل بقوله: (لا خير فيه) وبنهيه عنه أيضاً. ونحوه ما جاء في النوادر والزيادات: (قال مالك: ولا يلي بيعها لمبتاعها منه يسأله ذلك. قال أشهب: لا خير فيه.) (12).
وهذا يوافق فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه المسألة. ولا غرابة في ذلك، فالإمام مالك وارث علم أهل المدينة قبله، ومن أبرزهم سعيد بن المسيب.
3. وقول المشتري: (إني لا أبصر البيع) هو نفس التعليل الذي سُئل عنه الحسن البصري رحمه الله. ومع ذلك فإن الإجابة كانت حاسمة بالمنع. وهذا يؤكد أنه لو كان مقصود المشتري من تحصيل النقد بهذا الأسلوب أمراً مشروعاً ومحموداً، لكانت إعانته عليه محمودة كذلك، فلما كانت الإعانة مذمومة، علم أن هذا الأسلوب غير محمود أصلاً.
4. وقول الإمام مالك هذا رحمه الله يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يجعل المعاملة محرمة (13).
4. الإمام محمد بن الحسن الشيباني (١٨٩هـ)
الفقيه المجتهد المحدّث، صاحب أبي حنيفة ومن أئمة المذهب الحنفي.
وقد جاء عنه أكثر من نص:
(أ) جاء في كتاب الأصل: (ولو باعه لرجل، لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد، لنفسه ولا لغيره. ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع) (14).
يتبع
د. سامي بن إبراهيم السويلم 3/11/1426
05/12/2005
منقول من الإسلام اليوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد انتشر التمويل من خلال التورق المنظم في السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة، واستفحلت بسببه مديونية الأفراد، وترافق ذلك مع تدهور توزيع الدخل وارتفاع تركيز الثروة بدرجة ملحوظة.
وقد نتج عن انتشار هذا التمويل لدى المصارف الإسلامية تساؤلات جوهرية حول حقيقة التمويل الإسلامي والرسالة التي وجدت المصارف الإسلامية أصلاً من أجلها. فبينما كان دعم التنمية والإسهام في النشاط الحقيقي للاقتصاد على رأس قائمة أهداف المصارف الإسلامية، من خلال المشاركة والاستصناع والإجارة ونحوها من المبادلات الحقيقية، تراجعت هذه الأهداف بعد بروز التورق المنظم، وحل محلها أهداف ”أكثر واقعية“، تقتصر على تحقيق الربح من خلال تقديم النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة، مع توسيط سلع لا أثر لها في النشاط الحقيقي أو في توليد قيمة مضافة للاقتصاد.
وهكذا صار التورق المنظم سبباً في التراجع عن أهم أهداف المصارف الإسلامية، وسبباً لتشكيك الكثيرين، من المسلمين وغير المسلمين، في جدوى التمويل الإسلامي أصلاً، وما إذا كانت هناك فروق فعلية بينه وبين التمويل الربوي.
ولذلك لم يكن غريباً وقوع النـزاع بين الفقهاء المعاصرين حول مشروعية هذا النمط من التمويل، وتتابع المناقشات والمداولات بشأنه عبر سلسلة من الندوات والمؤتمرات، كان خاتمتها اجتماع مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والذي صدر قراره في أواخر ١٤٢٤هـ بمنع التورق المنظم وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية.
وقد قدمت العديد من البحوث والدراسات حول الموضوع، بين مؤيد ومعارض. انصب معظمها حول الاستدلال بشتى أنواع الأدلة حول مدى مشروعية هذه الصيغة من عدمه. لكنها تكاد تتفق على أن هذه الصيغة تبدو مستحدثة وغير مطروقة في مصادر الفقه الإسلامي ومدوناته.
لكن تبين أن هذه الصيغة كانت معروفة منذ القرن الأول للهجرة، وأن فتاوى السلف بشأنها كانت صريحة وحاسمة في منعها. ونظراً لغياب هذه الحقيقة عن كثيرين، جاء هذا البحث ليسلط الضوء على هذا الجانب، وليسهم في بناء تصور أكثر موضوعية ومصداقية في هذه المسألة الخلافية.
ولتتضح الصورة للقارئ نمهد بتحديد المصطلحات محل البحث:
مفهوم التورق وأنواعه
التورق أو التورق الفردي: هو الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقداً لطرف آخر غير البائع.
التورق المنظم: هو أن يتولى البائع ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق.
التورق المصرفي: كثيراً ما يستخدم هذا المصطلح رديفاً للتورق المنظم. لكن يمكن التمييز بينهما بأن التورق المصرفي هو تورق منظم يسبقه مرابحة للآمر بالشراء، حيث الآمر بالشراء هو المتورق. والسبب أن المصارف في الغالب لا تملك سلعاً ابتداء، فإذا رغب العميل في الحصول على النقد من خلال التورق المنظم عبر المصرف، تطلب الأمر شراء المصرف السلعة لأمر المتورق، ثم بيعها عليه بأجل، ثم بيعها نقداً وتسليم النقد للعميل.
فتاوى السلف في التورق المنظم
1. الإمام سعيد بن المسيب (٩٤هـ)
وهو أعلم التابعين، وأفقه الناس في البيوع (1). كان يفتي والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئل عن شئ يشكل عليه يقول: (سلوا سعيد بن المسيب فإنه كان يجالس الصالحين)(2).
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت فإن عندي طعاماً، [قال:] فبعتُها طعاماً بذهب إلى أجل، واستَوفَتْه. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعتها لها. فوقع في نفسي من ذلك شئ. فسألتُ سعيدَ بن المسيب فقال: (انظر ألا تكون أنت صاحبه؟) قال: قلت فأنا صاحبه. قال: ”فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل“، هذا لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل، ثم أمَرَتْه أن يبيعه، فباعه. قال: فسألتُ سعيد بن المسيب فقال: (أبصر ألا يكون هو أنت؟) قلت: أنا هو. قال: (ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك) (3).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات المهمة:
1. إن هذه المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم، لأن داود هو الذي باع السلعة بأجل ثم تولى بيعها نقداً نيابة عن أخته لطرف ثالث. ويدل على أن البيع النقدي كان لطرف ثالث أمور:
• التصريح بأنها (أمَرَتْه أن يبيعه)، وهذا صريح أنه نائب عنها في البيع، لا أنه هو المشتري.
• قوله: (أنا أبيعه لكِ). وهذا معناه أنه يبيع نيابة عنها، لا أنه يشتري منها، وهذا معروف عند السلف، إذا قال: أبيعه لك، أي أبيعه لمصلحتك نيابة عنك (4). ولو كان هو المشتري لقال: أنا أبتاعه منك.
• قولها: (انظر لي من يبتاعه مني)، وهذا يدل على أنها طلبت البحث عن المشتري بعد شرائها من أخيها بأجل، ولو كان المقصود أن يشتريها هو نفسه لما كان هناك حاجة للبحث عن مشتر.
• أن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ذكرا هذا الأثر في باب آخر خلاف أبواب العينة الثنائية (5).
فهذه المعاملة من باب التورق المنظم وليست من العينة الثنائية التي ترجع فيها السلعة للبائع.
2. إن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة لأنها ربا، بل وصفها بأنها (الربا محضاً)، وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك.
3. إن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها قبل ذلك. وإذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله لقي جمعاً كبيراً من الصحابة، وكان صهر أبي هريرة رضي الله عنه، وكان مقيماً بالمدينة النبوية وفيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيَبعد والحال كذلك أن تكون هذه الفتوى، بهذا الجزم، محض اجتهاد منه رحمه الله، بل الأقرب أن له فيها سلفا يتصل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
4. أن أخت داود سمّت معاملتها عينة، لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: (أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة) (6). ففسر التورق بأنه عينة. وسيأتي إن شاء الله ما يؤكد ذلك عند الفقهاء.
2. الحسن بن يسار البصري (١١٠هـ)
من سادات التابعين علماً وعملاً، وفقيه البصرة ومفتيها. قال أبو قتادة: ما رأيت أحداً أشبه برأي عمر بن الخطاب منه. وقال قتادة: ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شئ كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (7).
روى عبد الرزاق عن أبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق. فقال الحسن: (لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق).
وروى أيضاً عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: (بع واتق الله). قال: يبيعه لنفسه؟ قال: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً، ولا تكون منه في شئ. ادفع إليه متاعه ودعه) (8).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات:
1. قوله: إني أبيع الحرير، كان الغالب آنذاك هو استعمال الحرير للحصول على النقد من خلال شرائه بأجل ثم بيعه نقداً، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في العينة: (دراهم بدراهم وبينهما حريرة.) وتسمى العينة أحياناً: (بيع الحريرة) (9)، وسيأتي ما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء. ويفهم أن أبا كعب ربما باع بأجل لمن يريدون العينة، ولهذا قال الحسن في الرواية الثانية: (بع واتق الله) أي لكثرة ما يلابس بيع الحرير من الوقوع في العينة بصورها المختلفة.
2. إن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: (لا تكون منه فيه شئ ادفع إليه متاعه ودعه.) وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقداً، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
3. وقول الحسن رحمه الله: (لا تبعه) أي لا تبع الحرير نيابة عمن اشتراه منك بأجل، وهذا منع للتورق المنظم. وقوله: (ولا تشتره) أي لا تشتره منه، وهذا منع للعينة الثنائية. وقوله: (ولا ترشده) أي لا تدله على من يشتريه منه نقداً. وقال في الرواية الأخرى: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً) يعني والله أعلم إذا بعت الحرير واشتراه منك المتورق فلا تدل عليه من يشتري منه بنقد. فمجموع الروايتين منعٌ للدلالة من الجهتين. وعلى كل تقدير فهو نهي عن التدخل في عملية التورق، ولهذا قال: (ادفع إليه متاعه ودعه).
4. إن هذا التدخل ممنوع وإن كان المشتري لا يحسن التعامل في السوق، لقوله: (فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق) ، ومع ذلك نهاه الحسن رحمه الله عن التدخل، لعلمه أن مراد هؤلاء النقد. ولو كان هذا المراد حلالاً طيباً لكانت الإعانة عليه مشروعة مطلوبة. فلما كانت الإعانة على تحصيل النقد بهذا الطريق ممنوعة، علم أن هذا الغرض محل شبهة على أقل تقدير.
3. الإمام مالك بن أنس (١7٩هـ)
إمام دار الهجرة، وعالم المدينة الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم، فلم يجد الناس أعلم منه، كما ورد في الحديث النبوي (10).
قال ابن القاسم: (سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه) (11).
ويلاحظ من هذا النص:
1. أن المعاملة التي سَأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم، لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقداً نيابة عنه لرجل آخر. فقوله: (فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد)، أي قال المشتري للبائع: بعها لي، أي بعها نيابة عني، كما سبق. وقوله: (من رجل) أي غير البائع نفسه كما هو ظاهر.
2. إن الإمام مالكا منع هذا التعامل بقوله: (لا خير فيه) وبنهيه عنه أيضاً. ونحوه ما جاء في النوادر والزيادات: (قال مالك: ولا يلي بيعها لمبتاعها منه يسأله ذلك. قال أشهب: لا خير فيه.) (12).
وهذا يوافق فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه المسألة. ولا غرابة في ذلك، فالإمام مالك وارث علم أهل المدينة قبله، ومن أبرزهم سعيد بن المسيب.
3. وقول المشتري: (إني لا أبصر البيع) هو نفس التعليل الذي سُئل عنه الحسن البصري رحمه الله. ومع ذلك فإن الإجابة كانت حاسمة بالمنع. وهذا يؤكد أنه لو كان مقصود المشتري من تحصيل النقد بهذا الأسلوب أمراً مشروعاً ومحموداً، لكانت إعانته عليه محمودة كذلك، فلما كانت الإعانة مذمومة، علم أن هذا الأسلوب غير محمود أصلاً.
4. وقول الإمام مالك هذا رحمه الله يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يجعل المعاملة محرمة (13).
4. الإمام محمد بن الحسن الشيباني (١٨٩هـ)
الفقيه المجتهد المحدّث، صاحب أبي حنيفة ومن أئمة المذهب الحنفي.
وقد جاء عنه أكثر من نص:
(أ) جاء في كتاب الأصل: (ولو باعه لرجل، لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد، لنفسه ولا لغيره. ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع) (14).
يتبع