فضل
عضو مميز
يقول احدهم ..
نصف ساعة مجنونة تمر ويدي ممسكة بالقلم الأزرق السائل
أكتب عبارات جميلة ثم أختمها بتوقيعي وتاريخ اليوم ..
حضر عدد لا بأس به ممن يرغب في الحصول على نسخة من
كتابي الأخير ” كيف تكون سعيدا في حياتك ”
هذا هو إصداري الثاني بعد كتابي الأول والذي يتحدث عن حياة المراهق
والتعامل معه ، لكنها المرة الأولى التي أجلس فيها لأوقع للقراء
فقد رأى مدير النشر وبالاتفاق مع صاحب المكتبة أن أتحول إلى دمية
جميلة يجني من ورائها مالا وفيرا ..
لم تدم راحتي سوى لحظات قليلة ، حتى وجدت يد شاب تمتد نحوي
بنسخة من الكتاب طالبا التوقيع ، من بعيد وقفت سيدة ترمق المكان
بنظرات فاحصة ، عيناها اللتان تطل بهما من خلف النقاب الأسود
تحمل الكثير من التفكير العميق ، خمنت أنها من أولئك اللاتي يترددن
في طلب توقيع الكاتب ، أو أنها خجوله وتشحن نفسها قبل أن تقرر
السير إلى المنصة ..
أنهيت توقيع نسخة الشاب ، فقدَّمت لي السيدة نسخة طالبة التوقيع
باسم ” روح أنثى “ ، تناولت الكتاب منها وشرعت في التوقيع كالعادة
لكن يدي توقفت عند اسمها ، ذاكرتي أمدتني بشيء ما
قشعريرة بدأت تسري في جسدي ، رفعت وجهي فالتقت عيناي
بعينيها ، كانت قريبة هذه المرة فوجدت أنها تحمل معاني كثيرة
عدت أكمل التوقيع بيد تنتفض ، أعدت النسخة لها
التقطتها وهي ترمقني بنظرات غريبة .. ثم ابتعدت ..
هممت باللحاق بها لولا أن رجلا وقورا طلب التوقيع على ثلاث نسخ
وقعتها على عجل مع ابتسامة جاهدت كثيرا في صنعها ، ثم نهضت
من مكاني نحو الممر الذي اتجهت إليه ، وصوت مدير النشر يأتيني
من الخلف بأن الوقت لم ينته بعد ..
تخليت عن رزانتي وهدوئي راكضا خلف ذكريات عمر مضى ، هرولت
دون وعي بحثا عنها
خرجت من المكتبة ، لكنها اختفت ولم يكن لها ثمة أثر ..
لم أشأ العودة إلى المكتبة والتوقيع ، قررت التوجه نحو مقهى مجاور
هناك رميت بجسدي على المقعد وطلبت عصير باردا ، بت أفكر أي
ذكرى قادتها لي ؟
وهل شكوكي في محلها أم أن ما حدث مجرد أوهام خاطئة ؟
وإن لم تكن هي فلماذا تلك النظرات ؟
بل وهل اختيارها لذلك اللقب مجرد صدفة أيضا ؟
لالا .. لا أعتقد أن كل ما حدث صدفة ..
بل هي مقصودة .. إنها مها .. نعم مها ..
في سيارتي وفي طريق عودتي إلى البيت كانت ذكراها حاضرة رغم
مرور عقد ونصف على رحيلها ، جمعتني بها الصدفة مغرب يوم
كنت وقتها أقلب كتبي الجامعية ، فالامتحانات على الأبواب
والنفوس في غاية الكآبة ، رنَ هاتفي ، أحسست بشيء ما نحو
هذا الهاتف ، رفعت السماعة وقلت بصوت خافت :
- نعم ..
- مرحبا ..
- مرحبتين .. من ؟
- واحدة من الناس ..
- ومن تكون هذه الواحدة من الناس ؟
- إذا كنت ضايقتك فسأغلق السماعة حالا ..
لا أدري لماذا استجبت لصداقتها ، قد يكون الملل ، وقد يكون
الاستئناس بصديق جديد ، وقد يكون البحث عن شيء مسلي
في أيام الاختبارات الكئيبة ..
حدثتني عن نفسها ، وعن مدرستها الثانوية ، وعن معلماتها اللاتي
يصرخن فيها وفي صديقاتها ويغضبن من كسلهن ..
وحدثتها عن جامعتي وتخصصي الذي اخترته ، وعن الطلاب
والأساتذة المعقدين ..
كانت مرحة ، تضحك باستمرار ، قلت لها إن صوتك جميل ..
قالت : وأنت شاب مرح .. طلبت منها أن تغني لي أغنية جميلة
فرفضت طالبة أن أغني أنا ..
وجدنا الحل في أن نشترك في الغناء معا .. ونحن نضحك ..
قطع هواجسي اتصال من زوجتي ، تسألني عن التوقيع ، وأنهم في
شوق لعودتي وسماع أخباره ..
في المنزل أعد لي احتفال صغير ، تناولنا مع الأطفال كعكة التوقيع
وشربنا سعادة تلك الليلة ، لكني لم أكن في أوج حضوري الذهني
كانت صور التوقيع الأخيرة تسيطر على تفكيري ..
أنهينا الاحتفال ، وشرعت زوجتي تجمع الأطباق ، نهضت إلى مكتبي
أسترجع ذكريات بدأت أسترجع مذاقها ، اكتشفت أني بت أتذكر كل شيء
ذات مرة طلبت مني أن أكتب لها رسالة ، استغربت ذلك ، قلت إن الهاتف
يفي بالغرض … فلماذا الرسائل ؟ بررت طلبها قائلة : أريد شيئا منك عندي..
كتبت لها رسالة من صفحتين .. ضمنتها قصائد غزلية .. أسعفني بها
كتاب شعر وجدته في مكتبتي الصغيرة .. واقترح صديق أن أرفق معها
هدية جميلة ..
فعلت تلك الرسالة والهدية مفعولا لم أكن أتوقعه ، فكتبت لي رسالة أجمل
اكتشفت أني بعيد عن الرومانسية والوصف ، وأنها ساحرة في بث مشاعر
الحب وخلجاته.. ووقعت باسم ” روح أنثى ”
لم تنفك ذكرى “مها ” من المرور أمام عيني ، مرت أيام وأنا أتذكر كل يوم
شيئا جميلا ، كنت أبتسم وأنا أتذكر طرفة قالتها ، أو حكاية روتها ، أو موقفا
سعيدا جمعنا ..
في الجامعة وفي إحدى محاضراتي كنت بين طلابي أشرح لهم عن
الأسرة ودور الأب والزوج فيها ، وأنه قائد المركب ، وأنه بضياع هذا القائد
سيغرق المركب ..
لاحظت أن هاتفي النقال يومض برسالة ، فتحتها وأنا أخرج من محاضرتي
كانت من رقم غير مسجل ، كانت تقول : ” صباح الخير يا دكتور .. كتابك
جميل .. استمتعت بقراءته .. تمنياتي لك بحياة سعيدة .. روح أنثى .. ”
تغير وجهي وتبعثرت خطاي ، وكنت على وشك أن أفقد تركيزي ، ولحسن
حظي كان مكتبي قريبا فدخلته وأغلقت الباب خلفي ..
أعدت قراءة الرسالة مرات ومرات ، ركزت ببصري على جملة ” روح أنثى” ..
مشاعر مختلفة اجتاحتني في هذه اللحظات ، كنت بين شوق وخوف ..
بين لهفة ورعب .. أشياء كثيرة لا يمكن وصفها ..
تساءلت كيف وصلت إلي ؟ وكيف عرفت هاتفي ؟
بل كيف تذكرتني بعد هذه السنين ؟
تركت أسئلتي هذه لأجد نفسي مدفوعا للتفكير بالاتصال بها
رغبة قوية تلح علي لسماع صوت غاب عني خمسة عشر عاما ..
كنت في شوق لمعرفة رأيها فيني ، وهل مازلت في عينيها جميلا ؟
أم أن السنين قد أنستها ذكراي وأهميتي عندها ..
كنت في لهفة أن أسمع عبارات الحب التي كانت تمطرني بها
وضحكات السعادة التي كانت تلبسني بلباس الفرح ..
على الجانب الأيسر من الشاشة وفي قائمة خيارات اخترت
“الاتصال بالمرسل” ، تشجعت وتهيأت للاتصال بها
لكن شجاعتي خارت وضعفت ..
بقيت في حيرة من أمري ، هل أذهب قدما بالاتصال بها ؟
أم أنسى وأبتعد ، لابد أنها الآن زوجة وأم لأطفال
لذا عودة هذه العلاقة ليست في صالحنا ؟
ثم ما ذنب زوجتي وأطفالي في الانجراف وراء ذكريات مراهقة
طوتها السنون ..
قررت الاتصال أخيرا .. لم أستطع منع صورها الجميلة في ذهني
كما أنها لم ترسل لي هذه الرسالة إلا رغبة منها في التواصل مجددا
ثم إن أيامها من أجمل الذكريات .. ومن الجميل أن يسترجع الإنسان
أجمل ذكرياته ..
تعالى صوت الرنين في الجهة الأخرى .. ومعها تعالى خفقان قلبي ..
توقف الرنين ولم يتوقف الخفقان .. انبعث صوت خافت يقول: ألووو ..
شتان بين ذلك الصوت وهذا ..!
قلت : مرحبا .. أنا راشد ..
ردت : أعرف ..
قلت متلعثما : كيف حالك ؟
سمعت صوت تنهيدة ..
ثم عاد صوتها الخافت يقول : بخير .. أنا بخير .. وأنت ؟
أجبتها بلهفة : الحمد لله .. في أحسن حال ..
تبادلنا جملا مقطوعة وعبارات مبتورة .. وكأننا نتعرف على بعض للتو ..
لم نستطع التجاوز إلى ما هو أبعد ، حاولت أن أذكرها بمواقف طريفة
جمعتنا ، لكن صوتها الرتيب لم يشجعني
فجأة قالت بنبرة مختلفة :
- حدثني عنك.. أكيد تزوجت ؟
- نعم .. ولدي طفلان .. ديما وطارق ..
- يتربون في ظلك يا أبا طارق ..
- وماذا عنك ؟
- تزوجت مرتين .. ولكن خرجت خالية الوفاض ..
- وكيف ؟
- الأول مدمن مخدرات أشبع كل شبر من جسدي ضربا ورفسا وركلا ..
ثم سكتت قليلا وكأنها تحاول أن تبدو متماسكة ثم قالت :
- أما الثاني فقد كان مصابا بمرض الوسواس والشك ..
ما أن يخرج من البيت حتى يعود إليه يصرخ فيني ويسأل بشراسة :
أين عشيقك يا عاهرة .. وأنا اقسم بأن لا أحد في البيت ..
ولا يكتفي بذلك فيظل يبحث في كل ركن منه ، وعندما لا يجد أحدا يجد
في جسدي لذة يهرب به من كل آلامه .. فيذيقني لسعات من عقاله ..
هنا هاجمتني عبرات تطلب مني البكاء لأجلها ، أشفقت عليها وعلى
ما حدث لها ، عادت تترنم :
كم كنت أتمنى أن تكون زوجي !
كم كنت أحلم بك وأنا بجانبك !
كم كنت أنام وأحلم بك ويدي في يدك … ولكنك للأسف رحلت وتركتني..
أحسست في صوتها عتب ، وفي حديثها لوم لم يكن لي فيه ذنب
فقلت مدافعا عني :
- لم أتخل عنك .. أنت من طلب مني أن أبتعد .. أتذكرين عندما اتصلت
بي وطلبت مني ذلك وأن أمك قد اكتشفت علاقتنا ..
- لا أنكر أني قلت ذلك .. ولكني توقعت أنك سترفض .. بل و تطلب
أن تقترن بي ..
- كنت شابا يافعا في الجامعة .. فكيف لي أن أتزوج ؟
- لا تتهرب .. يمكن أن نبقى خطيبين حتى تنهي دراستك ثم نتزوج ..
لكنك تركتني ورحلت .. تركتني أقاسي بعدك وفقدانك ..
- صدقيني لم أرحل .. لقد ظللت وقتا أرقب حافلة المدرسة وهي تقلك
إلى بيتكم .. لقد تبعتها مرات عدة حتى خفت أن يفتضح أمري وأمرك ..
- ليتك لم تقتصر على الحافلة وعرفت طريق البيت .. لكن لا فائدة من
التحسر والعتب فقد انتهى كل شيء ..
- ولكني مازلت أحبك ..
قلت لها ذلك وقد أغرورقت عيناي بالدموع .. فعلا صوتها في الطرف الآخر
قائلة :
- ما أجمل هذا الكلام .. ولكنه لن يقدم شيئا .. أتريد أن تقنعني أنك
بعد هذه السنين مازلت تحتفظ بمشاعرك نحوي ؟ أم تراها كلمة تريد من
ورائها أن تزيد من عدد معجباتك ؟ أم تبحث عن صديقة تضيفها إلى
قائمة صديقاتك .. ( ضحكت بسخرية ) تحبني ؟ دعني أسألك .. هل
ستغامر بالاقتران بواحدة غشاها رجلان قبلك .. دكتور راشد لا تثقل
كاهلك بالأحمال .. لن أكون عبئا على حياتك .. سأختفي مجددا ..
وأتمنى لك حياة هانئة مع زوجتك وأطفالك .. أرجوك أتركني فلم يعد
لي قدرة أن أتحمل صدمة أخرى ..
- ولكن ..
ذهب صوتها ولم أعد أسمع سوى صوت نغمة انقطاع الخط
فانقطع حبل امتد مجددا ليصلني بها .. ولكنها اختارت الابتعاد كما المرة
السابقة .. رحلت وتركت لي بقايا ذكرى .. ذكريات لم أعد أراها جميلة ..
فقد تبدلت إلى لون كريه قاتم .. أياما كنت أراها من أجمل أيام عمري
لكنها أصبحت الآن من أسوائها ..
عادت مها وليتها لم تعد .. فلم تعد مها تلك الفتاة الجميلة ..
عادت وكأنها عجوز مثقلة بالهموم .. أرتها الحياة سواد أيامها وبيض لياليها ..
عادت مها ولم ترني ذلك الحبيب الجميل .. بل ذلك الرجل قاسي القلب ..
ذلك الرجل الذي رحل وتركها تنتظر سراب رجل .. لن يعود ..