مقام العز
عضو نشط
- التسجيل
- 3 أكتوبر 2010
- المشاركات
- 472
كانت فتنة ابن الأشعث التي قامت سنة إحدى وثمانين، وامتدت حتى سنة ثلاث وثمانين للهجرة، أي في خير القرون، نموذجاً جديراً بالدراسة والتأمل والاعتبار، وأخْذ الدروس منها؛ لأن صبغتها شرعية، وغذَّاها علماء صُلَحاء أتقياء زُهَّاد اتفقت الأمة على تعديلهم والثناء عليهم، إلا في فعلهم ذاك، قُتل فيها الآلاف من المسلمين.
ووفق الله علماء للتصدي لها، وسعوا جادين في التخفيف من وقعها وأثرها، وحاولوا جهدهم حماية المجتمع من تداعياتها ؛ ومن أولئك مطرف بن الشخير، والحسن البصري، وغيرهم.
أورد ابن سعد في الطبقات، والذهبي في تاريخ دمشق، أن عقبة بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبد الله بن غالب، وهم من كبار العلماء والعُبَّاد، انطلقوا في نفَرٍ من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري، فقالوا: يا أبا سعيد: ما تقول في قتال هذا الطاغية -يعنون الحجاج- الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟.
فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله، فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءٌ فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا ؟!.
وهذا المنهج في إنكار المنكر من تهميش للعلماء، وتنقصٍ لهم، والتقليل من مكانتهم، ثم التعجُّل والتهور في الممارسة، منهج -للأسف- يتجدد، وهو الذي يقع الآن في مجتمعاتنا الإسلامية، وتكون عاقبته ما تعلمون وتسمعون وتشاهدون.
وقد خرج أولئك النفر الثلاثة: عقبة بن عبد الغافر وأصحابه ومَن معهم خرجوا مع ابن الأشعث على الحجاج، فقُتلوا جميعاً. قال أبو المعذل: أتيت على عقبة بن عبد الغافر، وهو صريع في الخندق، فقال: يا أبا المعذل، لا دنيا ولا آخرة!.
قال الحسن البصري وهو يعظ أخاه سعيداً وجموعاً معه، وكان سعيد ممن وقعوا في الفتنة: يا أيها الناس! إنه -والله!- ما سُلط الله الحجَّاج عليكم إلا عقوبةً، فلا تُعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76]. وكلامه -رحمه الله- في المعنى كثير.
معشر المؤمنين: ومن الدروس التي نتعلمها من تلك الفتنةِ أنَّ مَن نجا وسلم ممن شارك في هذه الفتنة ندِم وتأسف، وود أنْ لم يكن شارك فيها، قال حماد بن زيد: ذكر أيوب السختياني القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: لا أعلم أحداً منهم قُتل إلا قد رُغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه، وندم على كان منه.
وقال مالك بن دينار: لقيت معبد الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاجَ في المواطن كلها، فقال: لقيت الفقهاء والناس، لم أرَ مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه! كأنه نادم على قتال الحجاج.
وبعضهم نقص قدره بسبب دخوله هذه الفتنة، قال عبدالله بن عوان: كان مسلم بن يسار لا يُفَضَّل عليه أحد في ذلك الزمان حتى فعل تلك الفعلة -أي خرج مع ابن الأشعث- فلقيه أبو قلابة، فقال: والله لا أعود أبداً، فقال أبو قلابة: إن شاء الله. وتلا أبو قلابة قول الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) [الأعراف:155]، فأرسل مسلم عينيه -بكاءً-.
وقال ابن عون: كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن فلما وقعت الفتنة خفّ مسلم فيها، وأبطأ الحسن، فأما مسلمٌ فإنه اتضع، وأما الحسن فإنه ارتفع.
وقال الشعبيُّ لما أدخل على الحجاج -وكان قد خرج مع ابن الأشعث-: قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلّينا الخوف، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها برَرَةً أتقياء، ولا فَجَرةً أقوياء.
ولما أُتي بفيروز بن الحصين إلى الحجاج، قال له: يا أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فقال: أيها الأمير، فتنة عمَّت. فأمر به الحجاج فضربت عنقه.
معشر الفضلاء العقلاء: هذه نماذج من أقوال نجوم العلم، ورموز الصلاح والتقى عن تلك الفتنة، كلهم يُخطِّئ مَن وقع فيها، نعم كلهم في الحكم عليها سواء من شارك فيها أو من سلمه الله منها.
الإمام الشعبي رحمه الله -وهو ممن وقع فيها- قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي. وفي فضله وسمو أخلاقه وكرمه ومروءته، قال عن نفسه: "ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا قضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس.
وقال أبو مجلز: ما رأيت أحداً أفقه من الشعبي؛ لا سعيد بن المسيب، ولا طاووس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين، فقد رأيتهم كلهم. وثناء العلماء عليه كثير جداً ليس هذا موضع بسطه، ومع ذلك خطّأ نفسه في تصرفه في الخروج على الحجاج.
هذا موقف علماء السلف من فتنة الخروج، ورأيهم في إنكار المنكر؛ ولقد ندم منهم من وقع في الفتنة، وتمنى أن لو سلم منها، وحكموا بخطأ تصرفهم.
وإنها لرسالةٌ حية إلى من يرى أن الخروج وحمل السلاح خيرُ وسيلةٍ لقمع المنكرات، وإصلاح العباد والبلاد.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحكيم في خلقه، خلَق الخلق وتعبَّدهم بطاعة أمره، واجتناب نهيه، فالعبودية والذلة له، وخوفه وخشيته أحب شيء إليه.
لولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ، ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة، فسبحانه من حكيم عليم! خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من يقرأ في كتب التواريخ وحوادث السنين من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة خمس وتسعين، وهي السنة التي هلك فيها الحجاج، يتحسر كثيراً؛ إذ لا تخلو سنة من هذه السنوات من قتيل وأسير للحجاج بسبب هذه الفتنة.
ومن أولئك علماء كبار وزهاد وصالحون لهم سيرة عطرة لا تُملّ قراءتها، ولقد صدق ظنُّ مطرف لما قالوا له: هذا عبد الرحمن بن الأشعث قد أقبل -يعني بجيشه خارجاً على الحجاج- فقال: والله لقد رابني أمران: لئن ظهر لا يقوم لله دينٌ، ولئن ظُهر عليه لا يزالون أذلةً إلى يوم القيامة.
وقد هُزم ابن الأشعث، وفرّ من نجا من أتباعه، فتعقبهم الحجاج، فقتل منهم خلقاً كثيراً، كان من أعيانهم عمران بن عصام الضُبعي والد أبي جمرة، كان من علماء أهل البصرة، صالحاً عابداً، أُتي به أسيراً إلى الحجاج فقال له: اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك. فقال: والله إني ما كفرت بالله منذ آمنت به. فأمر به فضُرِبَتْ عنُقُه.
وممن قتلهم الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى، من كبار علماء التابعين وقضاتهم وفقهائهم، والده صحابي، أُتي بابن أبي ليلى إلى الحجاج أسيراً فضرب عنقه بين يديه صبراً.
وقتل أيضاً أيوب بن القِرِّيِّة وكان فصيحاً بليغاً واعظاً قتله الحجاج صبراً بين يديه، كما قتل العالم الرباني سعيد بن جبير الذي قال عنه الإمام أحمد: قُتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج أو مفتقر إلى علمه. وحبس عالم مكة مجاهد بن جبر فما زال في السجن حتى مات الحجاج.
عباد الله: إن هذه الفتنة تعلمنا أن أي قول أو عمل مهما كان عامله أو قائلة لا بد أن يُعرض على الكتاب والسنة، فإن وافقهما فذاك، وإلا ترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسو أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير، ومع هذا لم يحمدوا على ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدراً عند الله، وأحسن نية من غيرهم، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خَلقٌ من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم". ا.هـ.
وقال رحمه الله: ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوعٌ من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتِّباعُه فيه، وإن كان معه أولياء الله المتقين. اهـ.
هذا إذا كان عظيماً في دينه وعلمه ومن أهل الاجتهاد، ومع ذلك اجتهاده مظنون، وفوق ذلك قد يحصل منه نوع من الهوى الخفي، فكيف بمن نصيبه من العلم قليل، وحظه من الديانة فيه ما فيه، وليس من أهل الاجتهاد؟ فيكون دافعه إلى الخروج وحمل السلاح ليس صحيحاً، وإن كان الحاكم مخطئاً ومقترفاً لعظائم الذنوب.
فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم، وأن لا ينازعوهم الأمر.
وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظّم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظاناً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهو إنما حرَّكَه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال.
وأخيراً -معشر المؤمنين- فإذا كان إنكار المنكر لا يأتي إلا عن طريق العنف وحمل السلاح على الوالي فهو منكر مرفوض، فهذا لا يعني أن السكوت عليه وإقراره بحجة نبذ العنف ومكافحة التطرف يكون أمراً محموداً.
المنكر منكر يبغضه الله تعالى، ونحن مأمورون شرعاً بتغييره، ولا عذر لمستطيع في السكوت عليه، ويتعين على كل من يقدر أن يسعى إلى تغييره إذا رآه بالأسلوب الشرعي، فإن لم يستطع فبلسانه وعظاً وتعليماً وتحذيراً، فإن لم يستطع فبقلبه بغضاً للمنكر، وعليه أن يترك المكان الذي يمارس فيه متى استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والحكمة ليست دعوى تُدَّعى، وإنما هي وضع الشيء في موضعه، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً) [البقرة:269]، ومن يسعى ويحرص عليها يصل إليها، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
شارك في رفع الموضوع لزيادة الاجر ونشرها في المنتديات صدقه جاريه
ووفق الله علماء للتصدي لها، وسعوا جادين في التخفيف من وقعها وأثرها، وحاولوا جهدهم حماية المجتمع من تداعياتها ؛ ومن أولئك مطرف بن الشخير، والحسن البصري، وغيرهم.
أورد ابن سعد في الطبقات، والذهبي في تاريخ دمشق، أن عقبة بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبد الله بن غالب، وهم من كبار العلماء والعُبَّاد، انطلقوا في نفَرٍ من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري، فقالوا: يا أبا سعيد: ما تقول في قتال هذا الطاغية -يعنون الحجاج- الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟.
فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله، فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءٌ فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا ؟!.
وهذا المنهج في إنكار المنكر من تهميش للعلماء، وتنقصٍ لهم، والتقليل من مكانتهم، ثم التعجُّل والتهور في الممارسة، منهج -للأسف- يتجدد، وهو الذي يقع الآن في مجتمعاتنا الإسلامية، وتكون عاقبته ما تعلمون وتسمعون وتشاهدون.
وقد خرج أولئك النفر الثلاثة: عقبة بن عبد الغافر وأصحابه ومَن معهم خرجوا مع ابن الأشعث على الحجاج، فقُتلوا جميعاً. قال أبو المعذل: أتيت على عقبة بن عبد الغافر، وهو صريع في الخندق، فقال: يا أبا المعذل، لا دنيا ولا آخرة!.
قال الحسن البصري وهو يعظ أخاه سعيداً وجموعاً معه، وكان سعيد ممن وقعوا في الفتنة: يا أيها الناس! إنه -والله!- ما سُلط الله الحجَّاج عليكم إلا عقوبةً، فلا تُعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76]. وكلامه -رحمه الله- في المعنى كثير.
معشر المؤمنين: ومن الدروس التي نتعلمها من تلك الفتنةِ أنَّ مَن نجا وسلم ممن شارك في هذه الفتنة ندِم وتأسف، وود أنْ لم يكن شارك فيها، قال حماد بن زيد: ذكر أيوب السختياني القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: لا أعلم أحداً منهم قُتل إلا قد رُغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه، وندم على كان منه.
وقال مالك بن دينار: لقيت معبد الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاجَ في المواطن كلها، فقال: لقيت الفقهاء والناس، لم أرَ مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه! كأنه نادم على قتال الحجاج.
وبعضهم نقص قدره بسبب دخوله هذه الفتنة، قال عبدالله بن عوان: كان مسلم بن يسار لا يُفَضَّل عليه أحد في ذلك الزمان حتى فعل تلك الفعلة -أي خرج مع ابن الأشعث- فلقيه أبو قلابة، فقال: والله لا أعود أبداً، فقال أبو قلابة: إن شاء الله. وتلا أبو قلابة قول الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) [الأعراف:155]، فأرسل مسلم عينيه -بكاءً-.
وقال ابن عون: كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن فلما وقعت الفتنة خفّ مسلم فيها، وأبطأ الحسن، فأما مسلمٌ فإنه اتضع، وأما الحسن فإنه ارتفع.
وقال الشعبيُّ لما أدخل على الحجاج -وكان قد خرج مع ابن الأشعث-: قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلّينا الخوف، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها برَرَةً أتقياء، ولا فَجَرةً أقوياء.
ولما أُتي بفيروز بن الحصين إلى الحجاج، قال له: يا أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فقال: أيها الأمير، فتنة عمَّت. فأمر به الحجاج فضربت عنقه.
معشر الفضلاء العقلاء: هذه نماذج من أقوال نجوم العلم، ورموز الصلاح والتقى عن تلك الفتنة، كلهم يُخطِّئ مَن وقع فيها، نعم كلهم في الحكم عليها سواء من شارك فيها أو من سلمه الله منها.
الإمام الشعبي رحمه الله -وهو ممن وقع فيها- قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي. وفي فضله وسمو أخلاقه وكرمه ومروءته، قال عن نفسه: "ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا قضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس.
وقال أبو مجلز: ما رأيت أحداً أفقه من الشعبي؛ لا سعيد بن المسيب، ولا طاووس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين، فقد رأيتهم كلهم. وثناء العلماء عليه كثير جداً ليس هذا موضع بسطه، ومع ذلك خطّأ نفسه في تصرفه في الخروج على الحجاج.
هذا موقف علماء السلف من فتنة الخروج، ورأيهم في إنكار المنكر؛ ولقد ندم منهم من وقع في الفتنة، وتمنى أن لو سلم منها، وحكموا بخطأ تصرفهم.
وإنها لرسالةٌ حية إلى من يرى أن الخروج وحمل السلاح خيرُ وسيلةٍ لقمع المنكرات، وإصلاح العباد والبلاد.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحكيم في خلقه، خلَق الخلق وتعبَّدهم بطاعة أمره، واجتناب نهيه، فالعبودية والذلة له، وخوفه وخشيته أحب شيء إليه.
لولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ، ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة، فسبحانه من حكيم عليم! خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من يقرأ في كتب التواريخ وحوادث السنين من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة خمس وتسعين، وهي السنة التي هلك فيها الحجاج، يتحسر كثيراً؛ إذ لا تخلو سنة من هذه السنوات من قتيل وأسير للحجاج بسبب هذه الفتنة.
ومن أولئك علماء كبار وزهاد وصالحون لهم سيرة عطرة لا تُملّ قراءتها، ولقد صدق ظنُّ مطرف لما قالوا له: هذا عبد الرحمن بن الأشعث قد أقبل -يعني بجيشه خارجاً على الحجاج- فقال: والله لقد رابني أمران: لئن ظهر لا يقوم لله دينٌ، ولئن ظُهر عليه لا يزالون أذلةً إلى يوم القيامة.
وقد هُزم ابن الأشعث، وفرّ من نجا من أتباعه، فتعقبهم الحجاج، فقتل منهم خلقاً كثيراً، كان من أعيانهم عمران بن عصام الضُبعي والد أبي جمرة، كان من علماء أهل البصرة، صالحاً عابداً، أُتي به أسيراً إلى الحجاج فقال له: اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك. فقال: والله إني ما كفرت بالله منذ آمنت به. فأمر به فضُرِبَتْ عنُقُه.
وممن قتلهم الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى، من كبار علماء التابعين وقضاتهم وفقهائهم، والده صحابي، أُتي بابن أبي ليلى إلى الحجاج أسيراً فضرب عنقه بين يديه صبراً.
وقتل أيضاً أيوب بن القِرِّيِّة وكان فصيحاً بليغاً واعظاً قتله الحجاج صبراً بين يديه، كما قتل العالم الرباني سعيد بن جبير الذي قال عنه الإمام أحمد: قُتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج أو مفتقر إلى علمه. وحبس عالم مكة مجاهد بن جبر فما زال في السجن حتى مات الحجاج.
عباد الله: إن هذه الفتنة تعلمنا أن أي قول أو عمل مهما كان عامله أو قائلة لا بد أن يُعرض على الكتاب والسنة، فإن وافقهما فذاك، وإلا ترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسو أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير، ومع هذا لم يحمدوا على ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدراً عند الله، وأحسن نية من غيرهم، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خَلقٌ من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم". ا.هـ.
وقال رحمه الله: ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوعٌ من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتِّباعُه فيه، وإن كان معه أولياء الله المتقين. اهـ.
هذا إذا كان عظيماً في دينه وعلمه ومن أهل الاجتهاد، ومع ذلك اجتهاده مظنون، وفوق ذلك قد يحصل منه نوع من الهوى الخفي، فكيف بمن نصيبه من العلم قليل، وحظه من الديانة فيه ما فيه، وليس من أهل الاجتهاد؟ فيكون دافعه إلى الخروج وحمل السلاح ليس صحيحاً، وإن كان الحاكم مخطئاً ومقترفاً لعظائم الذنوب.
فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم، وأن لا ينازعوهم الأمر.
وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظّم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظاناً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهو إنما حرَّكَه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال.
وأخيراً -معشر المؤمنين- فإذا كان إنكار المنكر لا يأتي إلا عن طريق العنف وحمل السلاح على الوالي فهو منكر مرفوض، فهذا لا يعني أن السكوت عليه وإقراره بحجة نبذ العنف ومكافحة التطرف يكون أمراً محموداً.
المنكر منكر يبغضه الله تعالى، ونحن مأمورون شرعاً بتغييره، ولا عذر لمستطيع في السكوت عليه، ويتعين على كل من يقدر أن يسعى إلى تغييره إذا رآه بالأسلوب الشرعي، فإن لم يستطع فبلسانه وعظاً وتعليماً وتحذيراً، فإن لم يستطع فبقلبه بغضاً للمنكر، وعليه أن يترك المكان الذي يمارس فيه متى استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والحكمة ليست دعوى تُدَّعى، وإنما هي وضع الشيء في موضعه، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً) [البقرة:269]، ومن يسعى ويحرص عليها يصل إليها، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
شارك في رفع الموضوع لزيادة الاجر ونشرها في المنتديات صدقه جاريه