محمد البغلي || يا حكومة العلة ليست في الدراسات : بل في عدم اتخاذ القرار

Q8-Fund.Manager

عضو نشط
التسجيل
17 نوفمبر 2009
المشاركات
7,380
الإقامة
Kuwait
مقال رائع من مدير الصفحة الاقتصادية في جريدة الجريدة


يا حكومة… العلة ليست في الدراسات بل بعدم اتخاذ القرار
كتب: محمد البغلي

قرر مجلس الوزراء تكليف اللجنة الوزارية الاقتصادية التعاون مع المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، للعمل على تحديث الدراسات التي أعدت لإصلاح الوضع الاقتصادي في البلاد، واقتراح ما يلزم من تدابير وإجراءات في هذا الشأن، لتحقيق الأهداف والغايات الوطنية المنشودة”.
الفقرة السابقة مقتطعة من بيان مجلس الوزراء يوم الأحد الماضي، الذي اتخذ قراراً بتحديث الدراسات الاقتصادية في البلاد، مما يعني وقف أي مشروع أو خطة اقتصادية لحين إعادة التحديث المرتقب، في وقت اطلق فيه محافظ بنك الكويت المركزي سالم الصباح تصريحا حدد فيه الملامح الرئيسية للاختلالات في الاقتصاد الكويتي.

وحقيقة إن تصريح المحافظ لم يأت بجديد من حيث انتقاد التركيز على مصدر احادي للدخل هو النفط او ضعف الانفاق الرأسمالي على المشاريع، فضلا عن عدم اعطاء فرص حقيقية للقطاع الخاص, لأن هذه الانتقادات لا يكاد تخلو منها اي دراسة اقتصادية اعدها مجلس الوزراء او المراكز الاستشارية المتخصصة منذ مرحلة ما بعد التحرير، بل وتمتلئ ادراج متخذي القرار بهذا النوع من الدراسات وغيرها, الا انه في المقابل يمكن التعامل مع الامر بأنه تحذير من راسم السياسات المالية والنقدية في الدولة بحكم منصبه.

ولعله من حق المراقب أن يسأل: “إذا كانت الحكومة تريد كما تقول تحديث دراساتها الاقتصادية فإنها لم تخبرنا مثلا عن مصير الدراسة التي أعدها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بشأن الاقتصاد الكويتي أو عن خطة التنمية البالغة قيمتها 37 مليار دينار، والتي كانت الشغل الشاغل للأوساط الاقتصادية والسياسية طوال العامين الماضيين، فضلاً عن عشرات الدراسات والتقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للتخطيط بشأن إصلاح الوضع الاقتصادي في البلاد وتنشيطه؟”.

ويكاد يجمع أهل الاختصاص في الاقتصاد على أن العلة في الكويت ليست بأي حال من الأحوال في الخطط أو الدراسات الاقتصادية بل في ضعف آليات اتخاذ القرار التنفيذي الذي يحول هذه الدراسات إلى واقع ملموس, وعليه يمكن سرد الأمثلة في هذا السياق كالتالي:

- أقر مجلس الأمة العام الماضي قانونا متكاملا لخصخصة العديد من المرافق العامة بالدولة، والتي تشكل إرهاقا عاليا على الموازنة العامة للدولة من حيث الرواتب والأجور أو من حيث الدعم المقدم للخدمات، وحتى الآن لم تشرع الحكومة في أي إجراء لخصخصة أي قطاع رغم معرفتها بوجاهة الخصخصة واستحقاقها لضمان مستقبل أفضل للبلد.

إضافة إلى أن القانون أصلا صوتت عليه الحكومة بالموافقة وتبنت جميع مواده، لكنها لم تشرع في أي من آليات التنفيذ… فنحن نتعامل مع حكومة تحتكر كل مقومات الإنتاج والخدمات من الطحين والبسكويت حتى النفط والبتروكيماويات، وهذا وضع خاطئ اقتصاديا وتنمويا.

- يمكن مناقشة حالة شركة الخطوط الجوية الكويتية كمثال للتخبط الحكومي في عملية الخصخصة، فـ”الكويتية” اطلقت عملية خصخصتها على مبدأ عدم تحديث اسطول الطيران لديها، وان المستثمر الفائز في المزايدة يتحمل عملية إعادة هيكلة الأسطول، إلا أن قرارا معاكسا مناقضا للخطة اعتمد تأجيل المزايدة لحين شراء الأسطول, وهذه خطوة لا تقل عملية التفاوض فيها حال وجود جدية من عام الى عامين.

- في عام 2003 أعلنت الكويت عزمها التحول الى مركز مالي وتجاري إقليمي يكون بمنزلة نسخة مطورة من النموذج التجاري للكويت ما قبل النفط عندما كانت مركزا للتجارة والترانزيت بين الهند وشرق إفريقيا, وبدأ الحديث عن ميناء عالمي “ميناء مبارك الكبير” إلا أنه بعد مرور 8 سنوات على هذه الرغبة نجد انها لاتزال في اطارها النظري.

صحيح ان الحديث يدور حاليا حول بدء الاعمال في الميناء، لكن التحول إلى مركز مالي وتجاري يستوجب أكثر من ذلك بكثير أقلها توفير بيئة قانونية تخدم تسهيل الأعمال التجارية والمالية وتنافس مراكز إقليمية أخرى قريبة منا كدبي “محطة بضائع” أو المنامة “عاصمة استثمارية”.

- لدى مجلس الامة مجموعة من القوانين الاقتصادية المعلقة، اهمها على الاطلاق قانون الشركات التجارية، فضلا عن قانون المستثمر الاجنبي وقانون تنظيم الوكالات التجارية وقانون المناقصات، إضافة إلى قانون الاستقرار المالي الذي صدر بمرسوم، وبات نافذا، لكنه لايزال منذ نحو عامين معلقا في اللجنة المالية البرلمانية, وهذه كلها قوانين ذات اهمية فائقة للاقتصاد الكويتي لما فيها من تطوير لقوانين قديمة يعود بعضها إلى بداية الستينيات من القرن الماضي.
- عندما تصل نسبة الرواتب والاجور الى 50 في المئة من اجمالي المصروفات في موازنة الدولة فإن هذا مؤشر واضح على فشل سياسات الحكومة في توجيه قوة العمل في البلاد، لاسيما الشباب، الى القطاع الخاص, خصوصا عندما يتعلق الامر بتراخيها المفرط مع المطالبات النيابية المتعلقة بإقرار الكوادر والزيادات والبدلات المالية، مما جعل الفرق في هامش الراتب بين الحكومة والقطاع الخاص غير مغر كثيرا للتوجه الى الاخير, مع تسجيل ملاحظة هنا فحواها ان الحكومة تمتلك من الاغلبية النيابية ما يحميها في الاستجوابات، لكنها لا تستخدم هذه الاغلبية عندما يتعلق الامر بمستقبل الاجيال والميزانية.

- قصة الاعتماد على مصدر احادي للدخل مشكلة قديمة في الكويت منذ بداية نشوء الدولة، لاسيما بعد ارتفاع اسعار النفط في السبعينيات، والحل كما هو معروف وواضح بإطلاق أعمال وأنشطة صناعية وخدمية تتقاضى عليها الدولة ضرائب أو رسوما تسهم في تنمية الايرادات غير النفطية، وفي هذا الموضوع بالذات هناك مئات الدراسات التي تقترح آليات كثيرة لتنويع مصادر الدخل.
لكن المشكلة الجديدة حاليا لا تتعلق بتنويع مصادر الدخل فحسب بل بعدم تحصيل مرافق الدولة الخدمية للرسوم المستحقة على المواطنين، لاسيما في الكهرباء والمواصلات, ورغم ان المبلغ غير المحصل لا يتعدى بضعة ملايين من الدنانير، اي مبلغ بسيط مقارنة بموازنة قيمتها 19 مليار دينار، فإنه يعطي مؤشرا بشأن جدية الحكومة في تحصيل اموالها او ايراداتها غير النفطية.
- مر عام كامل على وعد الحكومة بإعلان رؤيتها بشأن تمويل خطة التنمية ومشاركة القطاع الخاص فيها، ولم تعلن الحكومة حتى الآن هذه الرؤية رغم ان محافظ بنك الكويت المركزي أعلن في اكثر من مناسبة أن التمويل يجب ان يكون من خلال وحدات النظام المصرفي “البنوك” وليس من خلال شركات تمويلية تؤسسها الحكومة.

وبما ان التمويل لم تحدد آلياته او تعلن رسميا فإن كل ما يرتبط بالتنمية التي تتحدث عنها الخطة سيظل عالقا لحين إعلان آليات التمويل، مما يعني اطالة التأخير غير المبرر للمشاريع المشمولة بخطة التنمية التي هي بالمناسبة تجميع لخطط الوزارات اكثر منها خطة متناسقة للتنمية الاقتصادية والبشرية.
- عطفا على النقطة السابقة فإن الحكومة لديها ما يكفيها من الدراسات التي تؤكد ان الانفاق الرأسمالي على المشاريع، لاسيما على البنية التحتية، يمكن ان يكون مدخلا حقيقيا للانتعاش الاقتصادي من ناحية، ورفع جودة الخدمات كالكهرباء او الرعاية السكنية من جهة ثانية، إذ إنه من واجب اي دولة ان تتولى عملية توفير الخدمات الاساسية ولا مانع في هذه الحالة مثلا ان يربط معيار مدى نسبة توظيف الكويتيين او الادراج في البورصة بفوز هذه الشركة او تلك في المناقصات الخاصة بالمشاريع بعد انطباق المعايير والشروط الفنية والمالية عليها.
في الخاتمة, ان الحديث عن الدراسات الاقتصادية او اعادة تحديثها او احالتها الى المجالس العليا والفرعية لا معنى له إن لم تواكبه رغبة حقيقية في التنفيذ، فتاريخ الحكومة مع اللجان التي تنجز اعمالها وتقاريرها غير مشجع على الاطلاق، فغالبا ما يكون مصير هذه الدراسات الاهمال وعدم التطبيق.

ولنا ان نتذكر اهم لجنتين في هذا المجال “لجنة اصلاح المسار الاقتصادي ولجنة معالجة الاختلالات الهيكلية” في التسعينيات اللتين حددتا اهم المشاكل في الاقتصاد الكويتي (التركيز على مصدر احادي للدخل هو النفط، ضعف الانفاق الرأسمالي على المشاريع، عدم اعطاء فرص حقيقية للقطاع الخاص)، وهي نفسها التي تحدث عنها محافظ “المركزي” أمس الأول… فالعلة إذن في التنفيذ لا الدراسات!
 
أعلى