فضل
عضو مميز
يقول احدهم ..
عادةً ما نلتقي مساء أول خميس من كل شهر في باحة المقهى
المجاور لمنزله ..
نجلس ساعاتٍ نتبادل فيها أحاديث إبداعه الفني ورسومه المولعة بالصحراء
ورمالها وسمائها وسحابها ..
في آخر ليلةٍ التقينا انشغل عنّي بجهاز هاتفه يلمّع سطحه ويراجع
اتصالاته..
كلما حطّ الصمت علينا راح يتأمل وردة السوسن الذابلة على الطاولة
الصغيرة التي تفصل بيننا ناسياً القهوة حتى تبرد !
في تلك الليلة أدار أسطوانة الآهات وأسمعني أصوات أحجار صغيرة تتهاوى
في قعر روحه..
لأول مرة يأخذني بعيداً عن هموم فنه وذائقتي له..
- تصدّق أني منذ مدةٍ صرت أشعر بروح الشباب تعود إليّ ؟
- ما شاء الله.. واضح ، الشارب مصبوغٌ ، وأظنّ الشعر كذلك
- زوجتي لاحظت ذلك ، وبدلاً من أن يسعدها اهتمامي بمظهري راحت
تسألني عن سرّه .. وكأن الفوضى متأصلةٌ بي !
- أمرٌ متوقّع الحدوث .. اهتمامك المفاجئ بشكلك أثار استفهاماً لديها
- هذه المرأة تختلف عني .. حياتها جديةٌ بصورةٍ مبالغة
وتفكيرها منصبٌّ على المأكل والملبس فقط ..
- الآن تكتشف هذا ؟! عشتَ معها قرابة العشرين عاماً مرّت عليكما بانسجام
- أيّ انسجام ؟! عشتُ كلّ هذه السنوات مسايرةً ليس إلاّ
- يا رجل !
-يكفي أن تعلم أنني لم أخترها فوالدي أراد إكرام والدها بزواجي منها
- المهم أنكما قبلتما ببعض وتمّ الزواج وكان نتاجه ولدين وبنتين
- أرجوك لا تفتح عليَّ باب المواعظ .. سمعتُ منها ما يكفي
- ليست موعظة .. هذه حقيقةٌ أكيدة . أنت تجاوزت مرحلة الاختيار
- قصدك “وقع الفأس في الرأس”
- أيّ فأس وأيّ رأس ؟!
- زوجتي الفأس وأنا الرأس
- احمد ربك ، غيرك يتمنّى زوجةً صالحةً وبيتاً يؤويه
- أنا أتمنى زوجةً صالحةً أيضاً لكن غير التي أعيش معها
وكمن يترقّب قادماً إلى موعد أرسل بصره شاخصاً للناحية التي تليني ..
أدرت رأسي فلحَظتُ امرأةً ممشوقة القوام تسير بخطى قصيرةٍ ناعمة..
تعقّبها بنظره حتى استترت داخل القسم العائلي في المقهى ..
وعلى هيئة المحبّ الواله زَفر زفرةً متأوهةً نمّت عن شغفٍ حاز قلبه
- قل هذا .. تنوي الزواج من ثانية . اختصر بدلاً من كلّ هذه البربرة
- نعم ، وفيها روح الشباب وغُنجه .. تستوعب عاطفتي ورقّة مشاعري
- أيّ شباب ؟! أنت على أبواب الكهولة
- بل أنا في عزِّ الشباب
- يا بن الحلال الأسبوع الماضي كنت تشتكي ضعفاً في نظرك
وقبل شهرٍ كنت تتوجع من صداعٍ كاد يفلق رأسك نصفين ..
- ضعف نظر طبيعيٍّ لجلوسي الطويل أمام الكمبيوتر وصداعٌ طارئٌ لكثرة
تناولي القهوة تلك الليلة
- طيب طيب .. ومن سعيدة الحظ هذه ؟
- فتاةٌ مثقفةٌ تدرس في الجامعة.. بقي لها على التخرج قرابة ثلاث سنوات
تزوجت برجلٍ طلّقها بعد سنة.. اللئيم لم يرعَ حقّ العشرة ..
- نقدر نقول عمرها نصف عمرك
- وما الضير ؟!
- صدّقني هذه نزوة .. تروّ قليلاً
- سأخبرك بصراحة.. أنا في سن الأربعين وما ينتابني
هو “ أزمة منتصف العمر ”
- قصدك جنون الأربعين والمراهقة المتأخرة
- على أيّ حال .. سألتقي بوالد الفتاة غداً لنتفق على موعد العقد
- بهذه السرعة ؟!
- ”خير البرّ عاجله”
- الله يوفقك لكلّ خير
- شكراً
سار عني شامخ الرأس تحمله خفّة السعادة ..
وعلى نحو مفاجئٍ خرق سمعي صوت ارتطامٍ شديدٍ على رخامٍ أملس
نظرتُ محدّقاً فإذا صاحبي متمددٌ عند باب المقهى يئن أنيناً جمع حوله
الجالس والعابر ..
حاولت رفعه لكنه امتنع شاكياً وجعاً في ظهره
بادر نادل المقهى بالاتصال في الطوارئ ..
رافقت صاحبي في سيارة الإسعاف التي أقلتنا إلى المستشفى
هناك أظهر الفحص والأشعة إصابته بانزلاقٍ في فقرتين من فقرات ظهره
علمنا من الطبيب المناوب أن الانزلاق سوف يُجبره على ملازمة السرير
الأبيض شهراً كاملاً ..
طوال مدة ملازمته السرير بقيتْ زوجته إلى جواره ترعاه وتباشر احتياجاته
وتعاقب ولداه على استقبال عوّاده وضيوفه فيما تولت البنتان إعداد القهوة
والحلوى لهم يومياً ..
< عتيج الصوف ولا جديد البريسم >