فضل
عضو مميز
كاتب له اسلوب مشوق .. يقول ..،
< لماذا لم أحضر سائقاً يريحني من هذا العبء ؟! > رافقني هذا السؤال
طول طريقي قافلاً إلى بيتي بعد إيصال أبنائي إلى مدارسهم واحداً تلو الآخر ..
بدأت أقلّبه على كلّ وجه إلى أن بلغت حساب التكاليف التي سألتزم بها ..
فهناك مبالغ سأدفعها لتأشيرة قدومه ومبالغ لتجهيز غرفته وأخرى لاستخراج
رخصته وشراء السيارة … يا الله أكلّ هذا لأجل سائق واحد ؟!
رددت أوراد الصباح التي أحفظ أقلّها ، ثم أدرت مذياع السيارة لأعلم شيئاً مما
يجري في العالم الصاخب .. أيّ شيء أُثرثر به مع زملائي في المدرسة
حين يتحلّقون لشرب قهوة الصباح ، ظفرت من الأخبار بأحوال الطقس
وتحذيرات السيول .. ثم تلتها موسيقى صاخبة اختارها أحدهم لتكون مقدمة
برنامج ينقل أحوال الناس الجائلين في الأسواق الشعبية !
بدأ المذيع برنامجه بسؤال من يلتقي بهم :
ما هو الشيء الذي له عينٌ لكنه لا يُبصر ؟
واعداً من يتوصّل منهم إلى الجواب بهديةٍ قيّمة تُقدّم له فوراً ..
أخذ يتجاذب مع كل مسؤول من المتسوقين أطراف الحديث قبل طلب
الإجابة ليعرف منه حالته الاجتماعية ومحل إقامته ومهنته ..
تابعت البرنامج تشدّني إليه بساطة المتحدثين وعفويّة إجاباتهم ..
استرعت انتباهي تلك العلاقة بين إجابة السؤال ومهنة المسؤول ..
فالمزارع أجاب بـ عين الماء ، وأجاب الخياط بـالإبرة ، والميكانيكي بـأنوار
السيارة ..
ما أوقع المذيع في حيرة عبّر عنها بقوله :
عذراً أعزائي .. عذراً أريد إجابة تطابق المكتوب عندي في هذا الظرف الصغير لا غير !
دخلت بيتي والنعاس يثقل جفنيّ ويوهن خطاي .. الوقت ما زال مبكراً على
الحصة الرابعة .. تبّاً لهذه الإدارة الجاهلة تضع حصة الرياضيات في نهاية
الجدول اليومي ثم تطلب أن ترى بين طلابي من يشبه “فيثاغورس”
و”ابن الهيثم” !
سألتني زوجتي وأنا أسير متّجهاً إلى حجرتي إن كنت اشتريت لها الطماطم
والبصل والدجاج وبقية قائمة الطلبات التي سجّلتها لي ليلة البارحة ..
نهرتها بتأفّف من أن تصدّع رأسي وأوصدت بيننا باب الحجرة
حين تمددت فوق سريري طاف بي سؤال الإذاعة ..
تمنيت لو تابعت البرنامج إلى نهايته وسمعت الجواب المخبّأ في الظّرف
ساءلت نفسي : أيّ شيء يحمل عيناً لا تُبصر غير عين الماء أو خرم الإبرة
أو أنوار السيارة ؟!
استلطفت فكرة أن أبحث عن جواب قريب من مهنتي ..
أطلقت هاجسي يقتنص أجوبةً شتّى تتخاطر أمامي ..
انتهيت إلى أنني لا أعرف عن مهنة التعليم التي انتسبت إليها منذ عشرين
عاماً إلا القليل القليل ! فكلّ ما أقوم به يومياً لا يكاد يمتّ إليها بصلة ..
فأنا أبيع على الطلاب الفطائر والحلوى في مقصف المدرسة ، وأتابع نظافة
شعورهم وأظافرهم ، وأراقب عبثهم عند دورات المياه ، وأسجّل الغائب
منهم والمشاغب ، وأشرف على تطعيمهم باللّقاحات ومعالجتهم بالأدوية !
بالفعل لقد ابتعدت عن مهنتي كثيراً ولم يبقَ لي منها غير دفتر تحضير أُجدده
كلّ فصل دراسي .. أنسخ إليه مما كتبه زميلي “ أبو إبراهيم” الذي تقاعد
قبل سبع سنوات ..
هذا الدفتر التعيس هو الذي ظلّ مشرف مادة الرياضيات “سرحان” يمتدحه
كلّ سنة ويدوّن في أوله : “شكراً أستاذ صالح .. أنت مثال للمعلم المبدع
المبتكر” .. من يصدّق أن هذه العبارة لازمت دفاتر تحاضيري منذ تعييني ؟!
أظنني وجدت جواب سؤال الإذاعة الخاص بمهنتي .. لا غيره “سرحان”
مشرف المادة .. تحليلي المنطقي يقول إما أن أكون أنا طبقاً لما دوّنه في
دفاتري أو يكون هو نقيضه.. ولأني أعلم الناس بنفسي فالاستحالة أن أكون
المبدع المبتكر واليقين أنه هو صاحب العين التي لا تبصر ..
تخيلت نفسي أحد المسؤولين في البرنامج الإذاعي لأجيب فوراً
بـ سرحان .. مشرف مادة الرياضيات
يا لها من إجابة ستفاجئ مذيع البرنامج ومعدّه وسامعيه و”سرحان” نفسه..
أشعرتني زوجتي أنّ حصّتي على وشك الابتداء ودَعتني إلى تناول طعام
الإفطار قبل مغادرة المنزل ، فنهضت من فراشي بتثاقل إلى المائدة ..
جلست زوجتي قُبالتي تصبّ الشاي .. سألتني عن سرّ ضجري بعد عودتي
من توصيل الأبناء وإن كان أحدهم أشقاني في طريق المدرسة ..
نفيت هذا كلّه ، ثم سألتها على نحو مفاجئ :
ما هو الشيء الذي له عين لكنه لا يبصر ؟
ابتسمت بوجهي استسهالاً بسؤالي
وأشارت إلى البيضة المقليّة التي في الصحن أمامي !
< ما هو الشىء الذى له عين لا تبصر ؟! >