بيتك للتداول
عضو نشط
تنمية قليلة.. وتناقضات كثيرة
يؤرخ التاريخ عند كثير من الكويتيين، ومنذ القدم، بأحداث معنية، بحيث يصبح تاريخ ذلك الحدث مرجعا يتم الرجوع اليه، كأن يقال ولد أو توفي فلان قبل معركة الجهراء بكذا سنة أو يقال حدث هذا قبل أو بعد أحداث محددة كسنة الهدامة والصريف وسنة الغزو.. الخ.
ويبدو أن سنة 2010 ستكون أحد تلك الأحداث التاريخية في الكويت، التي سيطلق عليها سنة الخطة، كأن يقال حدث ذلك قبل أو بعد سنة الخطة، ويأتي هذا بسبب ذلك الزخم الكبير الذي أخذه موضوع الخطة منذ أواخر العام الماضي على الساحة الكويتية، وخاصة من خلال تصريحات كبار المسؤولين والوزراء والسياسيين والعديد من أعضاء مجلس الأمة، علاوة على ما واكب ذلك من تناقضات حملتها الخطة من حيث أسلوب ادارتها وتنفيذها وردود الأفعال عليها.
ولعل أول تلك التناقضات السياسية حول الخطة، قيام مجلس الأمة بإقرار الخطة في فترة زمنية قياسية وبإجماع غير مسبوق، ثم عقب ذلك وبفترة زمنية وجيزة انشقاق نيابي حول اقرار أحد القوانين التي تضمنتها الخطة وهو قانون الخصخصة، حتى صدر ذلك القانون على مضض، وكالعادة من خلال صفقات سياسية يتم بناء عليها ادخال بعض التعديلات التي تشوه مثل هذه القوانين فيصدر قانون مشوه.
ثم يأتي التناقض الصارخ الآخر، وبعد فترة زمنية وجيزة من اقرار قانون الخطة، ومع بدء العمل بتنفيذها، حيث يعلن القائمون على تنفيذ الخطة بأن تنفيذها يواجه معوقات أساسية تتمثل في ضعف امكان توفير التمويل اللازم لبعض المشروعات الكبيرة التي تتضمنها الخطة، وكأنهم فوجئوا بهذا الواقع ولم يكونوا على علم عند وضعها بأنها تتضمن مشاريع بحاجة الى توفير التمويل اللازم لها، وأنهم لم يكونوا على علم بأن قطاع المصارف، سواء المحلي أو الأجنبي لا يمكن أن يتورط في القيام بتمويل مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية ومالية واضحة.
ثم تأتي المفاجأة من العيار الثقيل من قبل بعض اولئك الذين عارضوا مبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني لدرء المخاطر من نشوء مشكلة نظامية في القطاع المالي، وهو مبدأ رغم عدم الرغبة في اللجوء اليه قد تبنته معظم الدول المتقدمة ذات مجالس نيابية واحزاب سياسية عريقة، وذلك عندما ضربت الازمة المالية اطنابها منذ عامين، وفي خضم عدم وضوح الرؤية ودخول العالم في ازمة لم نكن نعلم مداها ولا حدودها، نجد من وصف تدخل الدولة بأنها محاولة لتنفيع من اسموهم بالحيتان، ورفعوا لواء المعارضة لمبدأ تدخل الدولة آنذاك، نُفاجأ عندما نجدهم اليوم يدفعون وبقوة نحو استخدام المال العام لتمويل مشروعات هم يقرون بعدم جدواها الاقتصادية في حال عدم تقديم الدعم الحكومي المالي لها.
ولعلها من غرائب الصدف ان تلتقي الدعوة، التي بدأ الترويج لها، وبعد اقرار الخطة بفترة وجيزة، الشيخ احمد الفهد الاحمد الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير الدولة لشؤون التنمية ووزير الدولة لشؤون الاسكان، والمتمثلة في حتمية قيام الحكومة بانشاء صندوق وطني يهدف الى تقديم التمويل اللازم لمشاريع الخطة، وانه من دون ذلك التمويل لن تنجح الخطة في تحقيق اهدافها، تلتقي مع الدعوة بل مشروع القانون، الذي قدمه التكتل الشعبي والهادف الى رفع رأسمال الصندوق الكويتي للتنمية الى عشرة مليارات دينار، وذلك بهدف ما اصطلح على تسميته بمشاريع التنمية، لكن الدعوة التي وجهها التكتل الشعبي كانت اكثر وضوحا وصراحة من دعوة الشيخ احمد الفهد، حيث ان التكتل الشعبي يرى بل ويقر بأنه من دون دعم حكومي واضح وملموس وطويل الاجل على هيئة تمويل منخفض التكلفة وميسر الشروط فإن هذه المشاريع لا تمتلك مقومات النجاح والاستمرار نظرا لتدني الجدوى الاقتصادية والمالية لها، في حين ان دعوة الشيخ احمد الفهد غلفت بتردد البنوك في منح الائتمان لتلك المشروعات، علاوة على انخفاض قدرة البنوك المحلية على تلبية الاحتياجات التمويلية لمشاريع خطة التنمية.
لقد استبشرنا خيرا عندما عرضت الحكومة الخطة بشكلها النهائي على مجلس الامة لاقرارها وازداد تفاؤلنا عندما اقرت الخطة التنموية من قبل مجلس الامة وبإجماع غير مسبوق، حيث كان مصدر تفاؤلنا ان الخطة، ولاول مرة كوثيقة حكومية رسمية، تناولت بشكل سليم وموضوعي وابرزت واقرت اهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الكويتي، سواء ما يتعلق منها بالاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، او تلك التشوهات والافرازات السلبية، التي افرزتها ولا تزال، العديد من السياسات العامة الخاطئة، بل ان الخطة قد تضمنت، ضمن تشخيصها للوضع القائم، العديد من اوجه القصور والاخفاقات والتردي في العديد من المجالات المؤثرة على مسار التنمية والنمو الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص القطاعات الحيوية والاساسية كقطاع التعليم والادارة العامة وغيرها. ومما اثلج صدورنا عندما صدرت الخطة بقانون هو تحديدها لمجموعة من الاهداف الاستراتيجية العامة التي تسعى الخطة الى تحقيقها في الاجلين المتوسط والطويل، ويأتي في مقدمة تلك الاهداف رفع كفاءة الاقتصاد الوطني والعمل على تحقيق التوزيع الامثل للموارد الاقتصادية، وتفعيل دور القطاع الخاص في مقابل تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي والعمل باتجاه حصر دور القطاع العام بالادوار السيادية للدولة، والتي من بينها الادوار الرقابية والتنظيمية بشكل عام وفي المجالات كافة.
لكن مع شديد الاسف لم نستطع ان نستمتع بذلك التفاؤل الذي عشناه منذ صدور قانون خطة التنمية مطلع العام، اذ لم يمض الا بضعة اشهر على اقرار الخطة، واذ بنا نفاجأ بسلسلة متتالية من التصريحات من قبل القائمين على تنفيذ الخطة يشيرون فيها الى نسبة ما تم انجازه من الخطة، حيث كان مصدر تفاجؤنا واندهاشنا اختزال معايير القياس والاداء في تنفيذ الخطة الى معيار ما تم التعاقد عليه مع المقاولين لتنفيذ (ما نسميه) البعد الانشائي للخطة، لا بل انهم اخذوا يدخلون مشاريع انشائية تم اقرارها ورصد ميزانياتها منذ عدة سنوات من تاريخ اعداد الخطة.
بل الاخطر من ذلك تلك الدعوات التي اطلقها، كما اشرنا اليه آنفاً، القائمون على تنفيذ الخطة، وبشكل متواز مع بعض الدعوات البرلمانية، لاستخدام المال العام لتمويل ما اصطلح على تسميته مشاريع الخطة، وهي مجموعة مشاريع تستهدف الخطة ان يتم انشاؤها وادارتها من قبل القطاع الخاص.
ان خطورة تلك الدعوة هي انها تقوم على اسس خاطئة من تشخيص واقتراحات وفلسفة، وبالتالي تقود الى افرازات وتداعيات تتناقض تماماً مع التوجهات والاهداف العامة التي تسعى خطة التنمية الى تحقيقها.
فالحديث عن عدم قدرة ورغبة القطاع المصرفي الكويتي بتمويل مشاريع التنمية هو حديث غير صحيح، فالبنوك المحلية (ومن خلال متابعة وتحليل المؤشرات المصرفية والنقدية) تتمتع بمستوى عال من السيولة والملاءة وبالتبعية القدرة على التوسع الائتماني، لكن قدرتها وربما تحمسها للتوسع الائتماني لا يعني ان تتنازل عن الالتزامات بأساسيات العمل المصرفي وأصوله، التي يأتي في مقدمتها التحليل الائتماني السليم، بما في ذلك دراسة الجدوى الاقتصادية والتدفقات النقدية ومصادر السداد وطبيعة وتوافر الرهونات المناسبة... إلخ، لأي مشروع يتقدم يطلب الائتمان، فإن لم يتمكن هذا المشروع أو ذلك من استيفاء الشروط والحصول على التمويل اللازم من جميع البنوك المحلية، وعددها الآن يفوق العشرين بنكاً، فهذا يعني أن آلية مهمة من آليات اقتصادات السوق قد ساهمت في فرز المشاريع والأنشطة الاقتصادية ذات الجدوى الاقتصادية والمردود المالي الإيجابي عن تلك قليلة أو عديمة الجدوى، ومن ثم تكون قد ساهمت بشكل مباشر في توزيع الموارد الاقتصادية بالشكل الأمثل على مستوى الاقتصاد الكلي وبالتالي رفع كفاءة الاقتصاد الوطني.
وبالتالي.. فإن كان المطروح على الساحة من أفكار ومشاريع قوانين من قبل بعض الأطراف في الحكومة ومجلس الأمة يهدف الى استخدام المال العام لتمويل أنشطة ومشاريع اقتصادية ذات جدوى اقتصادية متدنية ولا تمتلك مقومات الاستمرار والنمو بدون دعم حكومي بشكل مباشر أو غير مباشر (أي من خلال البنوك المحلية) أو حتى من خلال تقديم الضمانات، فإن ذلك حتماً لا يمكن أن يؤدي إلا إلى هدر مستمر للمال العام وخلق كيانات اقتصادية كبيرة لا تتمتع بالكفاءة الاقتصادية ولا تمتلك مقومات الاستمرار والنمو، بل ان تلك المشاريع، وبفضل الدعم المالي الحكومي لها، ستكون في وضع تنافسي مميز ومفتعل وغير متكافئ مع المشاريع المماثلة لها، سواء القائمة حالياً أو التي يمكن إنشاؤها مستقبلا، والتي قد تكون ذات كفاءة اقتصادية أفضل. مما سيقود إلى وضع تطرد فيه المشاريع ذات الكفاءة الاقتصادية المتدنية تلك المشاريع ذات الكفاءة الاقتصادية الأفضل، مما سيكون له تأثير سلبي وواضح على كفاءة الاقتصاد الوطني ككل، وهو ما يتناقض بشكل سافر مع الأهداف الرئيسية لخطة التنمية.
أما إذا كانت المشاريع والأنشطة التي يتم الحديث عن تمويلها هي مشاريع ذات جدوى اقتصادية واضحة، وتتوافر فيها عوامل الاستمرار والنمو، وتساهم في خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، فالأجدر ان يقوم القطاع المصرفي المالي بتقديم الخدمات المالية، بما في ذلك الخدمات التمويلية، لتلك الأنشطة وغيرها، فهو القطاع الذي أنشىء في الكويت وفي جميع دول العالم، لكي يقوم بهذا الدور وهو القطاع الذي يحكم وينظم أعماله وأنشطته منظومة متكاملة من القوانين والسياسات والتعليمات وأنشطة العمل وأنظمة الرقابة، الذاتية والسيادية، وتتم مراقبته من قبل السلطة الرقابية المختصة، وهو القطاع الذي من خلاله يتم انتقال تأثير السياسة النقدية إلى بقية القطاعات الاقتصادية والاقتصاد الوطني بشكل عام، وبما يخدم أهداف السياسة النقدية التي في النهاية يفترض ان تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني.
ان قيام الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بتقديم التمويل للمشاريع الخاصة سيفتح الباب على مصراعيه للتدخلات والتأثيرات السياسية في توزيع ذلك التمويل وشروطه، وسيخلق نظاما تمويليا موازيا وغير منظم وغير منضبط مهما وضعت له من ضوابط واشتراطات، وذلك بفعل انكشافه على التأثيرات والمساومات السياسية، ولا يخفى على أحد ما لذلك التوجه من تأثير سلبي على القطاع المالي بكلمكوناته بما فيها البنك المركزي، ذلك القطاع الذي تستهدف الخطة العمل نحو توفير المتطلبات اللازمة للمساهمة في تطوره وازدهاره، وذلك كخطوة أساسية لتدعيم قدراته ودوره الأساسي في التنمية والنمو الاقتصادي، بل لتحقيق رؤية حضرة صاحب السمو أمير البلاد في أن يرى الكويت مركزاً مالياً إقليمياً، وهنا مرة أخرى مثال صارخ للتناقضات ما بين الأهداف المعلنة لخطة التنمية التي صدرت بقانون، وبين ما يمكن أن تفرزه سياسات يسعى القائمون على تنفيذ الخطة لتبينها خارج إطار خطة التنمية.
يؤرخ التاريخ عند كثير من الكويتيين، ومنذ القدم، بأحداث معنية، بحيث يصبح تاريخ ذلك الحدث مرجعا يتم الرجوع اليه، كأن يقال ولد أو توفي فلان قبل معركة الجهراء بكذا سنة أو يقال حدث هذا قبل أو بعد أحداث محددة كسنة الهدامة والصريف وسنة الغزو.. الخ.
ويبدو أن سنة 2010 ستكون أحد تلك الأحداث التاريخية في الكويت، التي سيطلق عليها سنة الخطة، كأن يقال حدث ذلك قبل أو بعد سنة الخطة، ويأتي هذا بسبب ذلك الزخم الكبير الذي أخذه موضوع الخطة منذ أواخر العام الماضي على الساحة الكويتية، وخاصة من خلال تصريحات كبار المسؤولين والوزراء والسياسيين والعديد من أعضاء مجلس الأمة، علاوة على ما واكب ذلك من تناقضات حملتها الخطة من حيث أسلوب ادارتها وتنفيذها وردود الأفعال عليها.
ولعل أول تلك التناقضات السياسية حول الخطة، قيام مجلس الأمة بإقرار الخطة في فترة زمنية قياسية وبإجماع غير مسبوق، ثم عقب ذلك وبفترة زمنية وجيزة انشقاق نيابي حول اقرار أحد القوانين التي تضمنتها الخطة وهو قانون الخصخصة، حتى صدر ذلك القانون على مضض، وكالعادة من خلال صفقات سياسية يتم بناء عليها ادخال بعض التعديلات التي تشوه مثل هذه القوانين فيصدر قانون مشوه.
ثم يأتي التناقض الصارخ الآخر، وبعد فترة زمنية وجيزة من اقرار قانون الخطة، ومع بدء العمل بتنفيذها، حيث يعلن القائمون على تنفيذ الخطة بأن تنفيذها يواجه معوقات أساسية تتمثل في ضعف امكان توفير التمويل اللازم لبعض المشروعات الكبيرة التي تتضمنها الخطة، وكأنهم فوجئوا بهذا الواقع ولم يكونوا على علم عند وضعها بأنها تتضمن مشاريع بحاجة الى توفير التمويل اللازم لها، وأنهم لم يكونوا على علم بأن قطاع المصارف، سواء المحلي أو الأجنبي لا يمكن أن يتورط في القيام بتمويل مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية ومالية واضحة.
ثم تأتي المفاجأة من العيار الثقيل من قبل بعض اولئك الذين عارضوا مبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني لدرء المخاطر من نشوء مشكلة نظامية في القطاع المالي، وهو مبدأ رغم عدم الرغبة في اللجوء اليه قد تبنته معظم الدول المتقدمة ذات مجالس نيابية واحزاب سياسية عريقة، وذلك عندما ضربت الازمة المالية اطنابها منذ عامين، وفي خضم عدم وضوح الرؤية ودخول العالم في ازمة لم نكن نعلم مداها ولا حدودها، نجد من وصف تدخل الدولة بأنها محاولة لتنفيع من اسموهم بالحيتان، ورفعوا لواء المعارضة لمبدأ تدخل الدولة آنذاك، نُفاجأ عندما نجدهم اليوم يدفعون وبقوة نحو استخدام المال العام لتمويل مشروعات هم يقرون بعدم جدواها الاقتصادية في حال عدم تقديم الدعم الحكومي المالي لها.
ولعلها من غرائب الصدف ان تلتقي الدعوة، التي بدأ الترويج لها، وبعد اقرار الخطة بفترة وجيزة، الشيخ احمد الفهد الاحمد الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير الدولة لشؤون التنمية ووزير الدولة لشؤون الاسكان، والمتمثلة في حتمية قيام الحكومة بانشاء صندوق وطني يهدف الى تقديم التمويل اللازم لمشاريع الخطة، وانه من دون ذلك التمويل لن تنجح الخطة في تحقيق اهدافها، تلتقي مع الدعوة بل مشروع القانون، الذي قدمه التكتل الشعبي والهادف الى رفع رأسمال الصندوق الكويتي للتنمية الى عشرة مليارات دينار، وذلك بهدف ما اصطلح على تسميته بمشاريع التنمية، لكن الدعوة التي وجهها التكتل الشعبي كانت اكثر وضوحا وصراحة من دعوة الشيخ احمد الفهد، حيث ان التكتل الشعبي يرى بل ويقر بأنه من دون دعم حكومي واضح وملموس وطويل الاجل على هيئة تمويل منخفض التكلفة وميسر الشروط فإن هذه المشاريع لا تمتلك مقومات النجاح والاستمرار نظرا لتدني الجدوى الاقتصادية والمالية لها، في حين ان دعوة الشيخ احمد الفهد غلفت بتردد البنوك في منح الائتمان لتلك المشروعات، علاوة على انخفاض قدرة البنوك المحلية على تلبية الاحتياجات التمويلية لمشاريع خطة التنمية.
لقد استبشرنا خيرا عندما عرضت الحكومة الخطة بشكلها النهائي على مجلس الامة لاقرارها وازداد تفاؤلنا عندما اقرت الخطة التنموية من قبل مجلس الامة وبإجماع غير مسبوق، حيث كان مصدر تفاؤلنا ان الخطة، ولاول مرة كوثيقة حكومية رسمية، تناولت بشكل سليم وموضوعي وابرزت واقرت اهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الكويتي، سواء ما يتعلق منها بالاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، او تلك التشوهات والافرازات السلبية، التي افرزتها ولا تزال، العديد من السياسات العامة الخاطئة، بل ان الخطة قد تضمنت، ضمن تشخيصها للوضع القائم، العديد من اوجه القصور والاخفاقات والتردي في العديد من المجالات المؤثرة على مسار التنمية والنمو الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص القطاعات الحيوية والاساسية كقطاع التعليم والادارة العامة وغيرها. ومما اثلج صدورنا عندما صدرت الخطة بقانون هو تحديدها لمجموعة من الاهداف الاستراتيجية العامة التي تسعى الخطة الى تحقيقها في الاجلين المتوسط والطويل، ويأتي في مقدمة تلك الاهداف رفع كفاءة الاقتصاد الوطني والعمل على تحقيق التوزيع الامثل للموارد الاقتصادية، وتفعيل دور القطاع الخاص في مقابل تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي والعمل باتجاه حصر دور القطاع العام بالادوار السيادية للدولة، والتي من بينها الادوار الرقابية والتنظيمية بشكل عام وفي المجالات كافة.
لكن مع شديد الاسف لم نستطع ان نستمتع بذلك التفاؤل الذي عشناه منذ صدور قانون خطة التنمية مطلع العام، اذ لم يمض الا بضعة اشهر على اقرار الخطة، واذ بنا نفاجأ بسلسلة متتالية من التصريحات من قبل القائمين على تنفيذ الخطة يشيرون فيها الى نسبة ما تم انجازه من الخطة، حيث كان مصدر تفاجؤنا واندهاشنا اختزال معايير القياس والاداء في تنفيذ الخطة الى معيار ما تم التعاقد عليه مع المقاولين لتنفيذ (ما نسميه) البعد الانشائي للخطة، لا بل انهم اخذوا يدخلون مشاريع انشائية تم اقرارها ورصد ميزانياتها منذ عدة سنوات من تاريخ اعداد الخطة.
بل الاخطر من ذلك تلك الدعوات التي اطلقها، كما اشرنا اليه آنفاً، القائمون على تنفيذ الخطة، وبشكل متواز مع بعض الدعوات البرلمانية، لاستخدام المال العام لتمويل ما اصطلح على تسميته مشاريع الخطة، وهي مجموعة مشاريع تستهدف الخطة ان يتم انشاؤها وادارتها من قبل القطاع الخاص.
ان خطورة تلك الدعوة هي انها تقوم على اسس خاطئة من تشخيص واقتراحات وفلسفة، وبالتالي تقود الى افرازات وتداعيات تتناقض تماماً مع التوجهات والاهداف العامة التي تسعى خطة التنمية الى تحقيقها.
فالحديث عن عدم قدرة ورغبة القطاع المصرفي الكويتي بتمويل مشاريع التنمية هو حديث غير صحيح، فالبنوك المحلية (ومن خلال متابعة وتحليل المؤشرات المصرفية والنقدية) تتمتع بمستوى عال من السيولة والملاءة وبالتبعية القدرة على التوسع الائتماني، لكن قدرتها وربما تحمسها للتوسع الائتماني لا يعني ان تتنازل عن الالتزامات بأساسيات العمل المصرفي وأصوله، التي يأتي في مقدمتها التحليل الائتماني السليم، بما في ذلك دراسة الجدوى الاقتصادية والتدفقات النقدية ومصادر السداد وطبيعة وتوافر الرهونات المناسبة... إلخ، لأي مشروع يتقدم يطلب الائتمان، فإن لم يتمكن هذا المشروع أو ذلك من استيفاء الشروط والحصول على التمويل اللازم من جميع البنوك المحلية، وعددها الآن يفوق العشرين بنكاً، فهذا يعني أن آلية مهمة من آليات اقتصادات السوق قد ساهمت في فرز المشاريع والأنشطة الاقتصادية ذات الجدوى الاقتصادية والمردود المالي الإيجابي عن تلك قليلة أو عديمة الجدوى، ومن ثم تكون قد ساهمت بشكل مباشر في توزيع الموارد الاقتصادية بالشكل الأمثل على مستوى الاقتصاد الكلي وبالتالي رفع كفاءة الاقتصاد الوطني.
وبالتالي.. فإن كان المطروح على الساحة من أفكار ومشاريع قوانين من قبل بعض الأطراف في الحكومة ومجلس الأمة يهدف الى استخدام المال العام لتمويل أنشطة ومشاريع اقتصادية ذات جدوى اقتصادية متدنية ولا تمتلك مقومات الاستمرار والنمو بدون دعم حكومي بشكل مباشر أو غير مباشر (أي من خلال البنوك المحلية) أو حتى من خلال تقديم الضمانات، فإن ذلك حتماً لا يمكن أن يؤدي إلا إلى هدر مستمر للمال العام وخلق كيانات اقتصادية كبيرة لا تتمتع بالكفاءة الاقتصادية ولا تمتلك مقومات الاستمرار والنمو، بل ان تلك المشاريع، وبفضل الدعم المالي الحكومي لها، ستكون في وضع تنافسي مميز ومفتعل وغير متكافئ مع المشاريع المماثلة لها، سواء القائمة حالياً أو التي يمكن إنشاؤها مستقبلا، والتي قد تكون ذات كفاءة اقتصادية أفضل. مما سيقود إلى وضع تطرد فيه المشاريع ذات الكفاءة الاقتصادية المتدنية تلك المشاريع ذات الكفاءة الاقتصادية الأفضل، مما سيكون له تأثير سلبي وواضح على كفاءة الاقتصاد الوطني ككل، وهو ما يتناقض بشكل سافر مع الأهداف الرئيسية لخطة التنمية.
أما إذا كانت المشاريع والأنشطة التي يتم الحديث عن تمويلها هي مشاريع ذات جدوى اقتصادية واضحة، وتتوافر فيها عوامل الاستمرار والنمو، وتساهم في خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، فالأجدر ان يقوم القطاع المصرفي المالي بتقديم الخدمات المالية، بما في ذلك الخدمات التمويلية، لتلك الأنشطة وغيرها، فهو القطاع الذي أنشىء في الكويت وفي جميع دول العالم، لكي يقوم بهذا الدور وهو القطاع الذي يحكم وينظم أعماله وأنشطته منظومة متكاملة من القوانين والسياسات والتعليمات وأنشطة العمل وأنظمة الرقابة، الذاتية والسيادية، وتتم مراقبته من قبل السلطة الرقابية المختصة، وهو القطاع الذي من خلاله يتم انتقال تأثير السياسة النقدية إلى بقية القطاعات الاقتصادية والاقتصاد الوطني بشكل عام، وبما يخدم أهداف السياسة النقدية التي في النهاية يفترض ان تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني.
ان قيام الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بتقديم التمويل للمشاريع الخاصة سيفتح الباب على مصراعيه للتدخلات والتأثيرات السياسية في توزيع ذلك التمويل وشروطه، وسيخلق نظاما تمويليا موازيا وغير منظم وغير منضبط مهما وضعت له من ضوابط واشتراطات، وذلك بفعل انكشافه على التأثيرات والمساومات السياسية، ولا يخفى على أحد ما لذلك التوجه من تأثير سلبي على القطاع المالي بكلمكوناته بما فيها البنك المركزي، ذلك القطاع الذي تستهدف الخطة العمل نحو توفير المتطلبات اللازمة للمساهمة في تطوره وازدهاره، وذلك كخطوة أساسية لتدعيم قدراته ودوره الأساسي في التنمية والنمو الاقتصادي، بل لتحقيق رؤية حضرة صاحب السمو أمير البلاد في أن يرى الكويت مركزاً مالياً إقليمياً، وهنا مرة أخرى مثال صارخ للتناقضات ما بين الأهداف المعلنة لخطة التنمية التي صدرت بقانون، وبين ما يمكن أن تفرزه سياسات يسعى القائمون على تنفيذ الخطة لتبينها خارج إطار خطة التنمية.