فضل
عضو مميز
يكمل صاحبنا تفاصيل سفره الاول الى مصر ..،
لدى خروجي من المطار ، وجدت عددا من سائقي سيارات الأجرة يتسابقون
إلى القادمين للفوز باصطحابهم إلى الأماكن التي يريدون ، وكان نصيبي
رجل وقور بلغ الستين وقد يزيد عنها ، طلب مني أن يحمل حقيبتي فرفضت
تكريما له ، فتح صندوق سيارته فوضعتها ثم ركبت بجانبه .
” أهلا بك في مصر ” جملة خرجت منه رقيقة ، وشكرته عليها ، ثم نظر إلي
نظرة فاحصة ثم قال : من فين إن شاء الله ؟ قلت له : السعودية .. ابتسم
وقال : أجدع ناس ..
سأعرف فيما بعد أني لو قلت جنسية أخرى لقال أيضا : أجدع ناس ..
كعادة كل سائق تاكسي في مصر لا يمكن أن يجعلك تسكت وتتابع الطريق
لابد أن يجعلك تشاركه الحديث ، سألني : الاسم إيه ؟
- عبدالله ..
- عاشت الأسامي يا سي عبدالله ..
- شكرا لك .. وأنت ؟
- محسوبك محمد ..
- أهلا يا محمد ..
- أهلا يا حبيبي .. على فين إن شاء الله ..
- فندق أربع نجوم وعلى النيل ..
- يا سلام أحلى مكان .. بس الفنادق اليومين دول زحمة كتير .. مفوله
- نشوف ..
- ولا يهمك يا سي عبدالله .. إنت تقول وأنا على كيفك ..
اكتشفت فيما بعد أنك لا تستطيع أن تضاهي المصريين في رقة وعذوبة
كلامهم ، يملكون سحرا لا يوصف في الحديث ، يجعلونك تشعر بقيمة
نفسك وأنك شخص لا يستهان به وذو مركز مرموق ، وفي الواقع حاولت
مجاراة السائق محمد لكنه تفوق علي وبالضربة القاضية .
- منذ متى وأنت تقود التاكسي ؟
- من ثلاثين سنة يا ابني .. وأنا دلوقت بعرف كل شبر في القاهرة وكل مكان
فيها ..
- ما شاء الله ..
- أنا كنت بأسوق قبل ما يبنوا بعض الكباري هنا .. وقبل ما تتغير القاهرة
وتظهر بنايات وفنادق جديدة .. يا ابني البلد تغيرت أوي .. والفلوس بتعمل
حاجات كثيرة ..
- وعلى فين راح توديني ؟
- ح نروح على فندق ح يعجبك أوي ..
استطعت الحصول على بعض الدقائق للنظر حولي مستمتعا بالقاهرة والليل
بدأ يسدل سدوله عليها ، تذكرت هنا صديقا مصريا لي يعيش في الرياض
عندما قال لي :
” ستحب القاهرة في الليل .. ستعشقها كثيرا ”
ها أنذا قد بدأت أستجيب لغزلها وأستمتع بهمساتها العذبة التي جعلتني
أستسلم لها في وداعة واسترخاء جميلين .. هواء رطب ومنعش .. وشوارع
فسيحة … قطع هواجسي صوت السائق وهو يقول :
- هو ده الفندق .. شوف كده ..
نزلت من السيارة واتجهت نحو الفندق
وصلت إلى استقبال الفندق فوجدت الموظف منشغل بالحديث في الهاتف
أدركت أنه لا يريد المزيد من الزبائن ، لكني انتظرت قليلا لعل وعسى ..
بعد نصف دقيقة أنهى مكالمته وسألني بأدب عن حاجتي ، فطلبت غرفة
بسرير واحد وعلى النيل .. ابتسم وقال : الفندق فل ع الآخر .. فسألته من
باب الفضول : هو الغرفة بكم ؟ فقال: (700 ) جنيه .
عدت إلى السيارة وأخبرت العم محمد بما سمعت ، فسكت قليلا وقال :
صدقني يا حبيبي كل الفنادق مفولة .. إيه رأيك نشوف لك شقة مفروشة ؟
سكتُّ قليلا أفكر .. فقاطعني قائلا : ما تخافش راح أوديك عند ناس
كويسه .. ح تصير ملك .. فقلت : ولكن أريدها آمنة وبعيدة عن اللي رايح
واللي جاي فاهمني يا حاج محمد .. ابتسم وقال : فاهمك يا حبيبي .
رفع السائق الموبايل وضغط على بعض الأرقام ..
- ألوه ..
- حاج سالم ؟ معاي شاب سعودي ملك وعاوز له شقة .. بس تكون على
مزاجك وبعيدة عن المشاكل .. عندك طلبي ؟
- حلو إحنا جايين دلوقتي …
أحسست أني استعجلت بقرار الشقة ، لكن ماذا عساي أن أفعل في ظل
هذه الفنادق الممتلئة ، وكأن العم محمد أحس بما يجول في خاطري فأخذ
يطمئنني بأن العمارة التي سنذهب إليها جميلة ولا خوف من أصحابها ، وأن
سكانها ناس محترمين ، وإذا لم يعجبني الوضع بإمكاني الاتصال به والبحث
عن غيرها .
وصلنا إلى شارع ضيق وسرنا ما يقرب من خمسين مترا ليعترض طريقنا رجل
عجوز أيضا لكنه في منتصف الخمسينات تقريبا وإن كانت ملامح الشيخوخة
قد عرفته مبكرا .
توقف العم محمد بجانبه وبعبارات ترحيب سريعة ، ركب الرجل خلفي ومد
يده يسلم ويرحب بكلمات سريعة لم أستطع اقتناص إلا القليل منها .
عرفت منه أن اسمه سالم وأنه سمسار شقق مفروشة وأن يدل الزبائن
إلى الشقق التي يريدون وعلى مزاجهم ، ورحب بي كثيرا ، ثم شرع يصف
الطريق للعم محمد .
مشينا عبر طريق سريع وواسع والكورنيش على يسارنا ، وتوقفنا أمام برج
كبير ، نزل السمسار والسائق وأنا خلفهما ، كانت العمارة يبدو عليها القدم
ومدخلها غير مضاء إلا من نور خافت ..
” سأعرف فيما بعد أن المظهر الخارجي غير مهم في القاهرة ، وأن المهم
هو الجوهر ”
توقفنا عند المصعد ، وضغطنا على رقم تسعة فانطلق المصعد يحمل الأمل
بالحصول على شقة مناسبة تنهي ساعات من السفر ، انفرج المصعد عن
الدور التاسع الذي تقع فيه الشقة وجلسنا ننتظر وصول السيدة التي تملك
حق تأجيرها ، وكان السمسار يتصل بها وبعصبية خشية أن أغير رأيي أو أن
يتسلل الملل إلى نفسي .
بعد فترة انتظار وصلت إلى عشر دقائق وصلت السيدة ” سونيا ” وكانت
سيدة سمراء تلبس عباءة وحجابا أسود وجينز أزرق وبلوزة سوداء ، وتبدو
في منتصف الثلاثينات ، ابتسمت لما رأتني ثم تحول وجهها إلى الغضب
عندما بدأت تتحدث مع السمسار وأخذت تشتمه بكلمات لم أفهمهما
والسمسار يحول تلطيف الجو بينهما .
فتحت الشقة ودخلت فقابلتني دورة مياه على اليمين ثم مطبخ صغير ثم
غرفة نوم ثم صالة واسعة ، وفي آخرها بلكونة ترى من خلالها نهر النيل
وعبر ارتفاع يصل إلى تسعة أدوار ، وكانت الشقة في غاية النظافة والترتيب
وهي على عكس مدخل العمارة الذي يبدو كئيبا .
أنهيت جولتي و جلسنا حول طاولة .. أنا وسائق التاكسي في جانب وأمامنا
الست ” سونيا ” والسمسار سالم في الجانب الآخر ، سادنا صمت ثقيل
تبادلنا خلاله النظرات ، حركت القلم مثلما يفعل سامي حداد مذيع قناة
الجزيرة ، كان الجميع ينتظرون رأيي حول ما شاهدت ، قررت بدء المفاوضات
الشاقة التي لا أدري كم ستستمر من دقائق حتى يحل السلام على
الجميع ، سألت السيدة عن سعر الشقة ؟ فقالت : كلك نظر .. وبدأت بيننا
لعبة شد الحبل .
ولاشك أن تحديد ثمن الشقة من أعقد القضايا على شاب لأول مرة يطأ فيها
أرض القاهرة ولا يعرف عن سعر الشقق على اختلاف أحيائها ، لذا لو قلت
رقما معينا فقد يكون أكبر من حقها فسيوافقون وسأكون ضحية سذاجة ما
بعدها ، صحيح أن الأنترنت التي استطعت الحصول عليها على بعض
المعلومات عن الأسعار لكن بالنسبة للشقق لم يكن هناك شيء واضح
فهي تعتمد على المالك والمستأجر .
قررت حسم الموقف وإنهاء الصراع الدائم بين الجانبين ، قلت فليكن السعر
( 500 ) جنيه .. فقالت السيدة سونيا لا دا قليل قوي ، خليها ( 600 ) جنيه
، قلت : لا أنا مصمم على ( 500 ) ، صمتت السيدة سونيا لثواني لتقول :
إيه رأيك ب( 550 ) ، أحسست بقدم السائق وهي تضغط علي فلما التفت
إليه وجدته يشير إلي بأن أوافق ، كما أن السمسار هو الآخر ينتظر هذه
الكلمة مني .. فوجدتني أقول : على بركة الله ..
انفرجت أسارير الجميع ، وبدأوا يبتسمون وخرج السمسار إلى البلكونة
يشعل سيجارته بينما ابتسم السائق قائلا : أنا كذا اطمنيت عليك وعاوز
أمشي ، فنفحته مئة جنيه ، فشكرني وانصرف .
قمت بعد المبلغ أمام السيدة سونيا ثم سلمته لها فيما كانت تكتب العقد
وتسألني عن الأيام التي سأجلسها في الشقة فقلت : عشرة أيام ، طلبت
مني التوقيع بعد أن وقعت هي الأخرى ، ثم قالت وهي تهم بالخروج وبوجه
كله رشاقة : لو عزت أي حاجة أنا خدامتك .
نهض السمسار هو الآخر وقال بصوته الأجش : على فين يا سونيا مش
عاوزه تتجوزيني . رمقته بنظرات حقد وقالت : يا شيخ روح .. وانت فيك حيل
تتجوز.. ، ضحك السمسار بصوته الأجش وجلس أمامي يقول : دلوقت
نسيبك ترتاح .. بس انتا نسيت حقي .. فقلت في دهشة : حقك ؟ قال :
نعم .. العقد بيقول عمولة السمسار عشرة في المية .. فتحت العقد
فوجدت أن العشرة تقسم بين المستأجر والمؤجر .. أخرجت مئتي جنيه
وقلت هذه الخمسة في المية اللي مطلوبة مني .
بعدما خرج الجميع مددت قدمي على الطاولة مطلقا تنهيدة التعب ، وأدرت
التلفاز حيث كان ينقل تمثيليات وافلام مصريه
قررت عدم التفكير في موضوع الشقة فقد انتهى ودفعت ثمن عشرة ليال
سأقضيها بين جدرانها ، فتحت حقيبتي ورتبت محتوياتها ، وضعت المعجون
والفرشاة والصابون في دورة المياه ، ثم وضعت زجاجة العطر على
التسريحة ، ثم رتبت ملابسي في الدولاب .
أخرجت قلب مفتاح من حقيبتي ، وقمت بفك قلب باب الشقة وركبت الجديد
حتى أشعر بأمان أكثر ، ثم رفعت خزانة صغيرة بالقرب من السرير ووضعت
الجواز وما معي من نقود ، ثم حملت غيارا جديدا وأخذت حماما ساخنا وأنا
أغني بأغان مصرية وبعد أن أحسست بأني غسلت كل متاعب السفر
وإرهاق مفاوضات الشقة ذهبت إلى المطبخ وصنعت لي كوب شاي
منعش .
حملت الكوب ، وجلست في الصالة أضع لي جدول زيارات لمعالم القاهرة
السياحية ، وبعد أن اكتمل الجدول وضعته على جدار أمامي ، ثم عدت
أرتشف كوب الشاي ، عندها قررت الخروج لتناول العشاء فقد أرسل الجهاز
الهضمي رسالة استغاثة إلى المخ بأن مخزونه الاستراتيجي على وشك
النفاد .