احمد الربعي (رحمة الله علي بو قتيبة رجلا كان لايعرف التعب و لا يعرف الحقد)... حتى لا يصبح التاريخ استنساخا
حتى لا يصبح التاريخ استنساخا
حسنا فعل الاخ الكريم عبد العزيز الرنتيسي برده على مقالتنا الموسومة «التاريخ يعيد نفسه» المنشورة بتاريخ 12/1/2003.. والى جانب لغته المتحضرة، فان مناقشة ما طرحته في مقالتي تلك هي امر صحي نحتاجه في هذه الظروف المعقدة.
جوهر مقالتي كان تلك الحقيقة المؤلمة التي تقول ان الشعب الفلسطيني وبسبب حجم المأساة التي عاشها، وتراكم القمع والتهجير والاستلاب بحقه، قد اصبح ضحية لجيش من المحتالين والباحثين عن السلطة، وان هذا الشعب قد تم استغلال ظروفه. فكل ضابط يعتلي صهوة دبابة يدبج البيان الاول بكلمة فلسطين حتى اذا تمكن حرق الزرع والنسل وعاث في الارض فسادا وتآمر على الفلسطينيين، وكل من رفع شعار القومية او اليسار او الاسلام وربطها بالقضية الفلسطينية وجد من يصفق له، وكل عمليات الارهاب العالمي الاخيرة التي اساءت الينا والى قضيتنا المركزية يتم ربطها بفلسطين، وفي كل مرة يقع الفلسطينيون ضحية حفلة من الكذب والتزوير، ويكونون حطبا لمعارك ليست معاركهم.
مقالتي كانت من منطلق الخوف من ان يكرر التاريخ نفسه، ولا اريد ان ندخل في فتح ملفات الماضي، ولا في حرب الارشيف، فمهمتنا العاجلة هي لئم الجراح لا نكأها. ولكن ولان الاخ الكريم عبد العزيز الرنتيسي طرح عددا من القضايا التي تتعلق بالموقف الفلسطيني من احتلال الكويت فلا بد من المرور مرور العابرين على تلك المسألة بهدف الاستفادة من اخطاء الماضي وليس بهدف البكاء على اللبن المسكوب.
لا اريد تكرار ما قاله الرنتيسي مشكورا عن موقف الكويت والكويتيين من القضية الفلسطينية، ففيها تشكلت حركة فتح وفيها عاش قادة السلطة الوطنية الحالية، وعلى ارضها كان يعيش ما يقرب من اربعمائة الف فلسطيني. كانت فلسطين ـ وما زالت ـ حاضرة في ضمائر الناس، اسماء الشوارع والمدارس، جمع التبرعات، المظاهرات الحاشدة، وكانت فلسطين هي الرقم الصعب الذي يتفق عليه الجميع في مجتمع ديمقراطي اعتاد على الخلاف على كل شيء.
في وسط هذه الاجواء يقوم صدام باحتلال الكويت، وفي اجواء كهذه كانت الناس في الكويت تتطلع الى كلمة حق، وخاصة من اولئك الذين وقفنا معهم من منطلق الواجب، فكان المشهد مأساويا.
القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (12 اغسطس 1990) تتبنى وجهة النظر العراقية وتعلن في بيانها ان المهمة العاجلة هي «التصدي للوجود العسكري الاجنبي» وتتحدث عن «التركة الاستعمارية وتقسيم الوطن العربي وسيطرة الاقلية على الثروة واغراق اسواق النفط» وهو بيان معدل ومهجن عن بيان صدام حسين عن احتلال الكويت.
قيادة عرفات «ناضلت» في مؤتمر القاهرة الطارئ (10 اغسطس 1990) ضد اصدار قرار ادانة الاحتلال وصوتت ضده، واعلن عرفات تحالفه مع صدام حسين واستمر، ودفع الشعب الفلسطيني الى اوسلو.
الشيخ اسعد بيوض التميمي، زعيم حركة الجهاد الاسلامي يطالب من بغداد (اواخر سبتمبر 1990) بنصرة العراق المسلم ضد دول الكفر (الكويت والسعودية) ويدعو صدام حسين من بغداد الى اعلان نفسه خليفة للمسلمين واعلان العراق دولة الخلافة الاسلامية، ويصدر فتواه «الوقوف الى جانب صدام حسين واجب شرعي والقتال معه قتال في سبيل الله ومن تخلف فهو من المتخلفين».
حركة حماس اصدرت بيانها الشهير (17 اغسطس 1990) الذي تطالب فيه بجلاء القوات العراقية من الكويت، ورغم انه موقف ايجابي الا انه يشبه تحقيقات الشرطة في جريمة تسجل في النهاية ضد «مجهول»، فليس في البيان ظالم ومظلوم بل القضية كما يقول البيان نصا «مناشدة الجارين العراق والكويت ان يتقوا الله في المسلمين فيجمعوا كلمتهم ويتجاوزوا خلافاتهم» وهذا الموقف يذكرنا بالموقف الاميركي الحالي من القضية الفلسطينية حين يناشد «الطرفين» باللجوء الى السلام. الطرف الاسرائيلي الذي احتل الارض، والطرف الفلسطيني الذي هو ضحية الظلم والعدوان. بل ان حماس تذهب الى ما هو ابعد من هذا بعد ايام من البيان بتفسير كل ما حدث بأنه مؤامرة مدبرة «من الصهيونية العالمية وعلى رأسها اميركا للقضاء على القدرات العلمية والعسكرية للعراق الشقيق» ثم تربط حماس موقفها بموقف شرعي بانه «لا يجوز دخول الكافرين ارض الحجاز، ومن يقل بغير ذلك فهو جانح مهزوم او متخاذل خراص». وفي 15/8/1990 دعت حركة حماس في بيان لها الى اضراب شامل «احتجاجا على الاحتلال الاميركي الصليبي لبلاد المسلمين» ودعت الى «مقاطعة البضائع الاميركية»! وبعد ذلك دعت حماس الفلسطينيين الى «الاكثار من الصيام والصلاة والدعاء الى الله ان يثبت اخواننا في العراق على اميركا وحلفائها وعبيدها والخروج الى السطوح والصراخ باسم الله، الله اكبر مع كل صاروخ يطلقه العراقيون..»!
أبَعْدَ كل ذلك يا اخي عبد العزيز الرنتيسي تتحدث عن حزنك وحزن الشيخ احمد ياسين الشخصي على احتلال الكويت، رغم التقدير لهذا الشعور؟ لكن المسألة اكبر من قضية عواطف. فالمواقف السياسية لحركة حماس وغيرها كانت احد اسباب تشجيع الرئيس العراقي على استمراره في العدوان. واهمال مشاعر شعب عربي تحت الاحتلال كان مأساة حقيقية لو حدثت لغير الكويتيين لدفعتهم ـ لا سمح الله ـ الى الكفر بقضيتهم والوقوف في المعسكر الاخر.
اقول ان التاريخ يعيد نفسه، فما نراه الان من تحركات في الاراضي المحتلة، ومن بينها المهرجان الذي كتبنا عنه وكلماتك في ذلك المهرجان، ستكون وسائل جديدة لتشجيع النظام العراقي على التطرف والعناد، وهو ما سيدفع بكارثة جديدة لشعب العراق الصامد بعد كل الكوارث التي تسببت بها الدكتاتورية وصفق لها الكثيرون.
اخي عبد العزيز الرنتيسي، علينا ان نتخلص من عقدة العروبة المتوحشة، والدخول الى فكرة انسانية اخرى تدين المجرم بغض النظر عن جنسيته، وترفض لبعض ابناء جلدتنا ان يتاجروا بنا وبمآسينا.
كل خوفي ان نتحول الى امة تصنع قاتليها وتصفق لهم، وكل خوفي ان نصبح مثل بعض اجدادنا في الجاهلية قبل ظهور رسول الامة حينما كانوا يصنعون آلهتهم من التمر فاذا جاعوا اكلوها، اما نحن فيبدو اننا نصنع هذه الالهة المزيفة لتأكلنا.
اذا كان الاخ الرنتيسي يخاف من حرب في العراق فان بيوتنا في الكويت تبعد مئة كيلومتر من الحرب، وهي حقيقة لها مدلولها النفسي، واذا كان الاخ عبد العزيز يخاف على شعب العراق وهو في الاراضي المحتلة فان خوفنا مختلف، فالعراقيون جيراننا وسيعود اطفالنا واطفال العراق الى العيش معا بسلام، ولذلك لا نريد لجيراننا واطفالهم ان يصبحوا ضحية لحرب او جوع او جهل لاننا سنكون اول ضحايا هذه المأساة. وكل املي ان تتم التفرقة بين قضيتين، بين شعب منهك من الحروب العدمية في العراق وبين حاكم ظالم، وكل املي ان تتم التفرقة بين قضية عادلة هي قضية فلسطين وبين معارك وهمية يخوضها حاكم العراق ويربطها ظلما وعدوانا بالقضية الفلسطينية. ودعائي بان يثبت الله المجاهدين ويقوي من عزيمتهم في وجه شارون ودباباته، وان يديم هذا التواصل والتعاضد بين شعب فلسطين وشعوب العرب من البحر الى البحر، وان يعيننا على قول كلمة الحق في وجه كل ظالم، وان يجعلنا نتذكر دائما من هم الذين تسببوا في بلوتنا، ومن هم الذين ادخلوا مئات الالاف من الجيوش الاجنبية الى بلدنا، ومن هم الذين تاجروا بنا وبقضيتنا، ومن هم الذين بددوا ثروة الامة في حروب عدمية، وان يعين اخوتنا في فلسطين على التفرقة بين المخلصين للقضية الفلسطينية وبين المتاجرين بها، وان يرفع الغمة عن العراق واطفاله.