خوش ولد
عضو متميز
كثير من الناس قد يؤثرون في مسيرة الحياة، لكن قليلا منهم مَن يصرُّ على أن يجعل من سيرته آثارا منحوتة تستعصي على المحو والإزالة.
ولقد خطَّ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بأعماله ومواقفه وأقواله خطا مقدسا في حياتنا، وأودعه من نفحات الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين، والتي استمدها بدوره من إمام الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
"الموت خير من حياة الخُنَّعِ"
لقد خط الرنتيسي هذا الخط المقدس في الحياة حين ألحت عليه نفسه وهي تحاوره وتجادله وتخوفه من المضي في طريق الشوك والصعاب.. تقول له نفسه:
ماذا دهاك، يطيب عيشك في الحزن!
تَشري النعيم وتمتطي صهو الصعاب؟!
ماذا عليك إذا غدوت بلا وطــن
ونعمت رغـد العيش في ظل الشباب
لقد عرضت عليه نفسه أن يتخلى عن وطنه، في مقابل أن ينعم برغد العيش في شبابه وصباه، فكيف رد عليها؟ يقول الرنتيسي:
يا هذه يهديك ربك فارجعــي
القدس تصرخ تستغيثك فاسمعي
والجنب مني بات يجفو مضجعي
فالموت خير من حياة الخنــع
ولذا فشــدي همتي وتشجعـي
في غمرة الصراع الذي أشعلته نفسه يجد الرنتيسي ذاته مضطرا إلى أن يأخذ بيدها داعيا الله تعالى في البداية أن يهدي له هذه النفس الجامحة، لترجع إلى صوابها ورشدها، ثم يذكرها بقضية الأمة الكبرى: القدس تصرخ تستغيث من قيد الأوغاد، ألا تسمعين؟ إنني لا أستطيع النوم مستريحا والحال كما ترين، إنني لا أرى إلا طريق المقاومة والجهاد لتحرير الأرض وحفظ العرض؛ والموت إذا مت خير من حياة الخنوع والذلة، فشدي الهمة وتشجعي معي.
لكن نفسه لا تسلم الزمام، وتصر على موقفها فتعيد عليه الكلام من جهة أخرى، تقول: ماذا ستجني من هذه القيود التي وضعت نفسك أسيرة لها؟ الذي يبدو لي أنك ستظل قيد الحبس حتى يأتيك الموت، وينتهي خبرك، فلمن ستترك بنيك من بعدك، ولماذا لا تفكر في هذه الزوجة التي ربما وقعت في الأسر وتحرش بها ذئاب البشر؟...
ها أنت ترسف في القيود بلا ثمـن
وغدا تموت وتنتهي تحت التـراب
وبنيك واعجبي ستتركهم لمــن؟
والزوج تسلمـها فتنهشـها الذئاب؟!
ومع اشتداد وطأة الكلمات وغليان الحوار الذي تعمدت نفسه فيه إثارة المخاوف والمواجع، يثبت الجبل الأشم، ويرد في غاية الثقة قائلا:
القيد يُظهـر دعوتي يوما فعي
وإذا قتلت ففي إلهـي مصرعي
والزوج والأبناء مذ كانوا معي
في حفظ ربي لا تثيري مدمعي
وعلى البلاء تصبري لا تجزعي
يا لها ما كلمات مثبتات، كالجبال الراسيات، سبحان الله الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان.
هذا القيد الذي تظنين أنني حبيسه ينشر مبدئي في العالم كله، ولولاه ما كان ذلك، فلتعي ذلك جيدا أيتها النفس. أما القتل إذا حدث فهو في سبيل الله. أما الزوجة والأبناء فإنني وهم منذ أن خلقنا في كنف الله ورعايته، وليس لي عليهم فضل الرعاية والحفظ. ولا داعي لإثارة عواطفي بذكر أهلي وأولادي كي تصيبي مني لحظة ضعف، ولتصبري على البلاء، بعيدا عن الجزع والهلع.
ومع قوة حجته فإن نفسه تلح عليه أكثر، وما زالت تلون له في التحذير من سوء العواقب، وفي هذه المرة تخوفه من النفي خارج البلاد، ليصبح مشردا أو لاجئا بينما يعشش الخراب في بيته، وحينها سوف لا يحتمل كتم همومه بين جنبيه، وسيظل يبحث عن صاحب أمين يشاركه محنته:
إني أخــاف عليك أن تنفَى غدا
ويصير بيتك خاويا يشكو الخراب
وتهيم بحثا عـن خليل مؤتمــن
يبكي لحالك أو يشاطرك العـذاب
لكن الرنتيسي يصر على أن يكون الأطول نفَسا مِن محاوِرته العنيدة والعصية، ويظل مع ذلك متحكما في أعصابه التي كادت تفلت منه، ويخاطبها مع ذلك بلهجة حانية قائلا:
إن تصبري يا نفسُ حقا تُرفعي
في جنة الرحمن خير المرتـع
إن الحياة وإن تطل يأت النعي
فإلى الزوال مآلها، لا تطمعـي
إلا بنيــل شهادةٍ فتُشفعــي
وأمام هذه المحاورة الساخنة تبدأ نفسه في تهدئة اللهجة التي بدأت بها، وكأنها بدأت في الاقتناع بوجهة نظر الرنتيسي ورأيه فيما يقول. وتخاطبه نفسه قائلة: لقد بدا لي الآن على وجه اليقين أنك قد نذرت نفسك لخوض هذه المعامع العصيبة، ورميت خلف ظهرك كل المناصب المجوفة التي يتكالب عليها أخساء البشر..
إني أراك نذرت نفس للمحــن
وزهدت في دنيا الثعالب والكـلاب
وبدا لي أيضا أنك تتمنى أن تموت في ميدان المعركة، وأن تدفن هناك بلا كفن، ولذلك دعوت الله لك أن يصوب خطاك ويكللها بالتوفيق والنجاح.
وعشقت رمسًا يحتويك بلا كفن
فرجوت ربي أن تكون على صواب
وهنا يجد الرنتيسي أن الحوار قد تحول في الاتجاه الصحيح، فيضيف موضحا وهو يخاطب نفسه ومحرضا لها: فلتعلمي أنني لن أنكس رأسي لهؤلاء المخادعين، وسوف أظل دائما في وضع الاستعداد للدفاع عن كرامتنا ووطننا، ولتعلمي أيضا أنك إذا كرهت هذه التضحية فسوف تلاحقك الصفعات والركلات من الخوارين والمحتالين والأدعياء، أما إذا وطنت نفسك على البذل والتضحية والفداء فستصنعين المجد والنصر لك ولأمتنا.
أنا لـن أبيت منكِّسًا للألمــعي
وعلى الزناد يظل دوما إصبعي
ولئن كرهتِ البذل نفسي تصفعي
من كل خوار ومحتال دعــي
وإذا بذلت الغال مجدا تصنعـي
وفي نهاية المطاف تختم نفسه حوارها بوصايا ثمينة، كأنها تحضه وتثبته وتحرضه على الجهاد والمقاومة، تقول:
إياك أن تخضع إلى أصنام البشر، وليكن سيفك دائما مشهورا على وضع الاستعداد.
إني أعيذك أن تذل إلى وثــن
أو أن يعود السيف في غمد الجراب
ولتمض في حياتك بهذه الطريق التي اخترتها واسترحت إليها، واعلم أنني لا ولن أرضى بحياة دون حياة الجهاد الذي يقود إلى النصر أو الشهادة.
فاقض الحياة كما تحب فـلا ولـن
أرضى حيـاة لا تظللها الحــراب
وهنا يرتفع صوتهما سويا: الرنتيسي مع نفسه، كأن كلا منهما آخذ بيد الآخر، ويقول:
فإلى العلا.. بلا حساب.. فإلى العلا.. بلا حساااااااب
استمع الى انشودة حديث النفس
كتب : عبد العظيم بدران باحث مصري في الدراسات الادبية .
ولقد خطَّ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بأعماله ومواقفه وأقواله خطا مقدسا في حياتنا، وأودعه من نفحات الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين، والتي استمدها بدوره من إمام الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
"الموت خير من حياة الخُنَّعِ"
لقد خط الرنتيسي هذا الخط المقدس في الحياة حين ألحت عليه نفسه وهي تحاوره وتجادله وتخوفه من المضي في طريق الشوك والصعاب.. تقول له نفسه:
ماذا دهاك، يطيب عيشك في الحزن!
تَشري النعيم وتمتطي صهو الصعاب؟!
ماذا عليك إذا غدوت بلا وطــن
ونعمت رغـد العيش في ظل الشباب
لقد عرضت عليه نفسه أن يتخلى عن وطنه، في مقابل أن ينعم برغد العيش في شبابه وصباه، فكيف رد عليها؟ يقول الرنتيسي:
يا هذه يهديك ربك فارجعــي
القدس تصرخ تستغيثك فاسمعي
والجنب مني بات يجفو مضجعي
فالموت خير من حياة الخنــع
ولذا فشــدي همتي وتشجعـي
في غمرة الصراع الذي أشعلته نفسه يجد الرنتيسي ذاته مضطرا إلى أن يأخذ بيدها داعيا الله تعالى في البداية أن يهدي له هذه النفس الجامحة، لترجع إلى صوابها ورشدها، ثم يذكرها بقضية الأمة الكبرى: القدس تصرخ تستغيث من قيد الأوغاد، ألا تسمعين؟ إنني لا أستطيع النوم مستريحا والحال كما ترين، إنني لا أرى إلا طريق المقاومة والجهاد لتحرير الأرض وحفظ العرض؛ والموت إذا مت خير من حياة الخنوع والذلة، فشدي الهمة وتشجعي معي.
لكن نفسه لا تسلم الزمام، وتصر على موقفها فتعيد عليه الكلام من جهة أخرى، تقول: ماذا ستجني من هذه القيود التي وضعت نفسك أسيرة لها؟ الذي يبدو لي أنك ستظل قيد الحبس حتى يأتيك الموت، وينتهي خبرك، فلمن ستترك بنيك من بعدك، ولماذا لا تفكر في هذه الزوجة التي ربما وقعت في الأسر وتحرش بها ذئاب البشر؟...
ها أنت ترسف في القيود بلا ثمـن
وغدا تموت وتنتهي تحت التـراب
وبنيك واعجبي ستتركهم لمــن؟
والزوج تسلمـها فتنهشـها الذئاب؟!
ومع اشتداد وطأة الكلمات وغليان الحوار الذي تعمدت نفسه فيه إثارة المخاوف والمواجع، يثبت الجبل الأشم، ويرد في غاية الثقة قائلا:
القيد يُظهـر دعوتي يوما فعي
وإذا قتلت ففي إلهـي مصرعي
والزوج والأبناء مذ كانوا معي
في حفظ ربي لا تثيري مدمعي
وعلى البلاء تصبري لا تجزعي
يا لها ما كلمات مثبتات، كالجبال الراسيات، سبحان الله الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان.
هذا القيد الذي تظنين أنني حبيسه ينشر مبدئي في العالم كله، ولولاه ما كان ذلك، فلتعي ذلك جيدا أيتها النفس. أما القتل إذا حدث فهو في سبيل الله. أما الزوجة والأبناء فإنني وهم منذ أن خلقنا في كنف الله ورعايته، وليس لي عليهم فضل الرعاية والحفظ. ولا داعي لإثارة عواطفي بذكر أهلي وأولادي كي تصيبي مني لحظة ضعف، ولتصبري على البلاء، بعيدا عن الجزع والهلع.
ومع قوة حجته فإن نفسه تلح عليه أكثر، وما زالت تلون له في التحذير من سوء العواقب، وفي هذه المرة تخوفه من النفي خارج البلاد، ليصبح مشردا أو لاجئا بينما يعشش الخراب في بيته، وحينها سوف لا يحتمل كتم همومه بين جنبيه، وسيظل يبحث عن صاحب أمين يشاركه محنته:
إني أخــاف عليك أن تنفَى غدا
ويصير بيتك خاويا يشكو الخراب
وتهيم بحثا عـن خليل مؤتمــن
يبكي لحالك أو يشاطرك العـذاب
لكن الرنتيسي يصر على أن يكون الأطول نفَسا مِن محاوِرته العنيدة والعصية، ويظل مع ذلك متحكما في أعصابه التي كادت تفلت منه، ويخاطبها مع ذلك بلهجة حانية قائلا:
إن تصبري يا نفسُ حقا تُرفعي
في جنة الرحمن خير المرتـع
إن الحياة وإن تطل يأت النعي
فإلى الزوال مآلها، لا تطمعـي
إلا بنيــل شهادةٍ فتُشفعــي
وأمام هذه المحاورة الساخنة تبدأ نفسه في تهدئة اللهجة التي بدأت بها، وكأنها بدأت في الاقتناع بوجهة نظر الرنتيسي ورأيه فيما يقول. وتخاطبه نفسه قائلة: لقد بدا لي الآن على وجه اليقين أنك قد نذرت نفسك لخوض هذه المعامع العصيبة، ورميت خلف ظهرك كل المناصب المجوفة التي يتكالب عليها أخساء البشر..
إني أراك نذرت نفس للمحــن
وزهدت في دنيا الثعالب والكـلاب
وبدا لي أيضا أنك تتمنى أن تموت في ميدان المعركة، وأن تدفن هناك بلا كفن، ولذلك دعوت الله لك أن يصوب خطاك ويكللها بالتوفيق والنجاح.
وعشقت رمسًا يحتويك بلا كفن
فرجوت ربي أن تكون على صواب
وهنا يجد الرنتيسي أن الحوار قد تحول في الاتجاه الصحيح، فيضيف موضحا وهو يخاطب نفسه ومحرضا لها: فلتعلمي أنني لن أنكس رأسي لهؤلاء المخادعين، وسوف أظل دائما في وضع الاستعداد للدفاع عن كرامتنا ووطننا، ولتعلمي أيضا أنك إذا كرهت هذه التضحية فسوف تلاحقك الصفعات والركلات من الخوارين والمحتالين والأدعياء، أما إذا وطنت نفسك على البذل والتضحية والفداء فستصنعين المجد والنصر لك ولأمتنا.
أنا لـن أبيت منكِّسًا للألمــعي
وعلى الزناد يظل دوما إصبعي
ولئن كرهتِ البذل نفسي تصفعي
من كل خوار ومحتال دعــي
وإذا بذلت الغال مجدا تصنعـي
وفي نهاية المطاف تختم نفسه حوارها بوصايا ثمينة، كأنها تحضه وتثبته وتحرضه على الجهاد والمقاومة، تقول:
إياك أن تخضع إلى أصنام البشر، وليكن سيفك دائما مشهورا على وضع الاستعداد.
إني أعيذك أن تذل إلى وثــن
أو أن يعود السيف في غمد الجراب
ولتمض في حياتك بهذه الطريق التي اخترتها واسترحت إليها، واعلم أنني لا ولن أرضى بحياة دون حياة الجهاد الذي يقود إلى النصر أو الشهادة.
فاقض الحياة كما تحب فـلا ولـن
أرضى حيـاة لا تظللها الحــراب
وهنا يرتفع صوتهما سويا: الرنتيسي مع نفسه، كأن كلا منهما آخذ بيد الآخر، ويقول:
فإلى العلا.. بلا حساب.. فإلى العلا.. بلا حساااااااب
استمع الى انشودة حديث النفس
كتب : عبد العظيم بدران باحث مصري في الدراسات الادبية .