الرأي اليوم / رسالة إلى جاسم البحر
كبيراً كنت ... كبيراً غبت
انت الذي هدرت كالبحر في حياتك وسبحت في كل الاتجاهات واحيانا كثيرة بعكس التيار... لم تكن تعلم ان تيار القدر سينتصر عليك في غفلة من الزمن فيزورك في غربتك ليوحش غربتنا اكثر ونستفيق اثر انحسار الموج على حرقة.
ابا طلال... وكم من عهد يجمعنا. ما خلتك تخون العهد وتغدر بثلاثين عاما من الصداقة والاخوة والمحبة. ما خلتك تقدر على التأخر عن الرد حين نتصل بك. اعرف انك لا تغدر ولا تخون وليس لهذه الصفات وجود في قاموسك. اعرف انك ما تأخرت عن الرد يوما بل كنت تبادر الى الاتصال حين تشعر اننا بحاجة الى نصيحة ودعم وامل وعزيمة. واعرف انك الاجرأ على قول كلمة الحق والسير امام من يحتاجها لا خلفه... انت الاجرأ حتى على فعل الغياب ونحن لا نجرؤ على مغالبة الدمع، ولا نجرؤ على التكيف مع الرحيل، ولا نجرؤ على تحمل غياب الـ «قوة» من مطلع سلامك.
ثلاثون عاما هادرة انهيتها بهدوء غريب، واجتمعت فيها مزايا نادرا ما اجتمعت في شخص واحد. نظرة ثاقبة في الاستثمار كعين النسر القادر على الرؤية من مكان عال. قدرة على قراءة المستقبل بحكمة الشيوخ وطاقة على تنفيذ القرار بهمة الشباب. محارب حقيقي في مواجهة التحديات وما اكثر ما تعرضت لها، وفارس نبيل في ادارة شؤون مملكتك يشعر كل من يعمل معك بانه ابن او اخ او صديق او قريب.
كنا نلتقي بشكل دائم لنستلهم من عزيمتك دروسا في الصبر والتحمل، وكنت دائما تفاجئنا بابتسامة وطرفة وكأنك لا تخوض مواجهة او تتعرض لحملات. كان صفاء سريرتك يعكس صفاء قضيتك وكان نقاء روحك يعكس نقاء الملفات التي استمات خفافيش الليل لتلويثها، ولا اخالك من علياك الا مبتسما عندما ترى كيف قلب كثيرون اسطوانتهم المشروخة فأبدلوها بمديح واشادة بعدما كرسوا عمرهم كله للحرب والتهجم... كنت محقا يا اباطلال عندما قلت: «سيهديهم الله يوما ما».
لم يتعرض رجل اعمال لمثل ما تعرضت له. حوربت ليل نهار. استخدموا ضدك كل الاسلحة المحرمة اخلاقيا وماليا ومعنويا. كرسوا جل همهم لتشويه صورتك وعرقلة مسيرتك. لم ترد الا بمزيد من الاعتصام بحبل الحق والقضاء. لم تتحدث عن اعمالك ولم تسمح لاحد من العاملين معك بالرد في الموضوع الشخصي تاركا الكلمة للقانون، لكن القريب منك يعلم كم كنت كبيرا في العطاء وعمل الخير، وكم كنت حريصا على ألا يعلم غير الباري جل جلاله ماذا فعلت. ونحن احتراما لرغبتك لن نفصح ايضا، لكنك ستسمح لنا بالحديث فقط عن جمعية القلب الكويتية التي كنت من مؤسسيها وابرز داعميها ماديا ومعنويا وكيف خصصت جزءا كبيرا من وقتك الثمين لادارتها ومتابعة شؤونها لتخفيف الاعباء عن قلوب الكثيرين... قبل ان يهزم الصمت قلبك الكبير.
اما انا يا صديقي، فأسير شريط الاعوام الثلاثين. استعيده بكل تفاصيله ومحطاته. كان التوافق سيد المسيرة باستثناء موضوع واحد جسد خلافا جوهريا واساسيا بيننا وكنا نعالجه بهدوء حينا وبعصبية احيانا. هو موضوع السيجارة وسلبياتها والشيشة ومضارها. اما ما تبقى من امور فتوافق حقيقي في الرؤية والمسار بل شراكة في كل شيء، وحتى عندما تحدث مواقف يعتقد البعض ان خلافا نشأ بسببها كنت ترجوني بطرافتك المعهودة ان نستمتع بترك الناس تفهم ما تشاء... «خلنا نتسلى يا معود».
سبقتنا في كل شيء ايها الهادر الصاخب حتى في الرحيل.
جاسم البحر، لم يتسع لك البر... لم يتسع لك البحر.
سلاماً سلاماً أيها الراقي الحبيب... سلاماً سلاماً فالشمس تشرق بعد مغيب. وعزاؤنا أن أسرتك وأحبابك سيكملون مسيرة النجاح والخير والتميز.
إلى جنة الخلد يا أبا طلال.
جاسم بودي